الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ ٱلْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَىٰ طَآئِفَةً مِّنْكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقِّ ظَنَّ ٱلْجَٰهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ ٱلأَمْرَ كُلَّهُ للَّهِ يُخْفُونَ فِيۤ أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَٰهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ ٱللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ }

قوله تعالى: { ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ ٱلْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً } الأمَنَة والأمن سواءٌ. وقيل: الأمنة إنما تكون مع أسباب الخوف، والأمن مع عدمه. وهي منصوبة بـ «أَنْزَلَ،» و «نعاسا» بدلٌ منها. وقيل: نصب على المفعول له كأنه قال: أنزل عليكم للأمنة نعاسا. وقرأ ابن مُحَيْصن «أمْنَةً» بسكون الميم. تفضل الله تعالى على المؤمنين بعد هذه الغموم في يوم أُحُد بالنعاس حتى نام أكثرهم وإنما ينعس من يأمن والخائف لا ينام. روى البخاري عن أنس أن أبا طلحة قال: غشينا النعاس ونحن في مَصافِّنا يوم أحد، قال: فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه. { يَغْشَىٰ } قرىء بالياء والتاء. الياء للنعاس والتاء للأمنة. والطائفة تطلق على الواحد والجماعة. { وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } يعني المنافقين. مُعَتِّب بن قُشير وأصحابه، وكانوا خرجوا طمعا في الغنيمة وخوف المؤمنين فلم يغشهم النعاس وجعلوا يتأسّفون على الحضور، ويقولون الأقاويل. ومعنى { قَدْ أَهَمَّتَهُمْ أَنْفُسُهُم } حملتهم على الهمّ، والهمّ ما هممت به يقال: أهمّني الشيء أي كان من همي. وأمرٌ مُهِمٌ: شديد. وأهمّني الأمر أقلقني، وهمني أذابني. والواو في قوله «وطائفةٌ» واو الحال بمعنى إذْ، أي إذ طائفة يَظُنُّون أن أمر محمد صلى الله عليه وسلم باطل، وأنه لا يُنصر. { ظَنَّ ٱلْجَاهِلِيَّةِ } أي ظنّ أهْلِ الْجَاهِلِيَّة، فحذف. { يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلأَمْرِ مِن شَيْءٍ } لفظه استفهام ومعناه الجحد، أي ما لنا شيء من الأمر، أي من أمر الخروج، وإنما خرجنا كرها يدّل عليه قوله تعالى أخبارا عنهم: { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا }. قال الزبير: أرسِل علينا النوم ذلك اليوم، وإني لأسمع قول مُعَتِّب بن قُشير والنعاسُ يغشاني يقول: لو كان لنا من الأَمر شيء ما قُتلنا ها هنا. وقيل: المعنى يقول ليس لنا من الظَّفَر الذي وَعَدَنا به محمد شيءٌ، والله أعلم. قوله تعالى: { قُلْ إِنَّ ٱلأَمْرَ كُلَّهُ للَّهِ } قرأ أبو عمرو ويعقوب «كُلَّه» بالرفع على الابتداء، وخبره «لِلَّه» والجملة خبر «إن». وهو كقوله: { وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ تَرَى ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى ٱللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ }. والباقون بالنصب كما تقول: إن الأمر أجمع لله فهو توكيد، وهو بمعنى أجمع في الإحاطة والعموم، وأجمع لا يكون إلا توكيدًا. وقيل: نعت للأمر. وقال الأخفش: بدل أي النصر بيد الله ينصر من يشاء ويخذل من يشاء. وقال جُويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله { يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقِّ ظَنَّ ٱلْجَاهِلِيَّةِ } يعني التكذيب بالقَدَر. وذلك أنهم تكّلموا فيه، فقال الله تعالى: { قُلْ إِنَّ ٱلأَمْرَ كُلَّهُ للَّهِ } يعني القَدَر خيره وشره من الله. { يُخْفُونَ فِيۤ أَنْفُسِهِم } أي من الشِّرك والكفر والتكذيب. { مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ } يظهرون لك.

السابقالتالي
2