الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسْتَكَانُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّابِرِينَ } * { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِيۤ أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ }

قوله تعالى: { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ }. قال الزهريّ: صاح الشيطان يوم أُحُد: قتِل محمد فانهزم جماعة من المسلمين. قال كعب بن مالك: فكنت أوّل من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأيتُ عينيْه من تحت المِغْفر تزهران، فناديت بأعلى صوتي: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ إليّ أن أسكت، فأنزل الله عز وجل: { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ } الآية. و «كأين» بمعنى كَمْ. قال الخليل وسيبويه: هي أيّ دخلت عليها كاف التشبيه وبنيت معها فصار في الكلام معنى كم وصوّرت في المصحف نوناً لأنها كلمة نقلت عن أصلها فغُيِّر لفظها لتغير معناها، ثم كثر استعمالها فتلعَّبَت بها العرب وتصرفت فيها بالقلب والحذف، فحصل فيها لغات أربعٌ قُرِىء بها. وقرأ ابن كثير «وكَائِنْ» مثل وكَاعِنْ، على وزن فاعل، وأصله كَيْءٍ فقلبت الياء ألفاً، كما قلبت في يَيْأَس فقيل ياءَسُ قال الشاعر:
وكَائِنْ بالأبَاطِحِ من صَديقٍ   يَرَانِي لَوْ أُصِبْتُ هو المُصَابَا
وقال آخر:
وكَائِنْ رَدَدْنا عنكم مِن مُدَجَّجٍ   يَجِىءُ أمامَ الرَّكْب يَرْدِي مُقَنَّعَا
وقال آخر:
وكَائِنْ في المَعاشِرِ من أُنَاس   أخوهم فَوْقَهم وهُمُ كِرَامُ
وقرأ ابن محيصِن «وكَئِنْ» مهموزاً مقصوراً مثل وكَعِن، وهو من كَائِنْ حذفت ألفه. وعنه أيضاً «وكَأْيِن» مثل وكَعْيِّنْ وهو مقلوب كَيْءٍ المخفف. وقرأ الباقون «كَأَيِّنْ» بالتشديد مثل كَعَيِّن وهو الأصل، قال الشاعر:
كَأَيِّنْ من أُناسٍ لم يزالوا   أخوهم فوقَهم وهُمُ كرامُ
وقال آخر:
كأَيِّنْ أبَدْنا من عدوّ بِعزِّنا   وكائِنْ أجَرْنا من ضَعِيفٍ وخائفٍ
فجمع بين لغتين: كأَيِّنْ وكَائِنْ، ولغة خامسة كَيْئِنْ مثل كَيْعِنْ، وكأنه مخفَّف من كَيِّىء مقلوب كَأيِّنْ. ولم يذكر الجوهري غير لغتين: كائِنْ مثل كاعِنْ، وكأَيِّنْ مثل كَعَيِّنْ تقول كأَيِّنْ رجلاً لقيتُ بنصب ما بعد كأَيِّنْ على التمييز. وتقول أيضاً: كأَيِّنْ مِن رجل لقيت وإدخال مِن بعدَ كأيِّنْ أكثرُ من النصب بها وأجودُ. وبكأَيِّنْ تبيع هذا الثوب؟ أي بكم تبيع قال ذو الرمّة:
وكَائِنْ ذَعَرْنا من مَهَاةٍ ورَامِحٍ   بِلاَدُ العِدَا لَيْسَتْ له بِبِلادِ
قال النحاس: ووقف أبو عمرو «وكَأَيْ» بغير نون لأنه تنوين. وروى ذلك سَوْرَةُ ابن المبارك عن الكسائيّ. ووقف الباقون بالنون اتباعاً لخط المصحف. ومعنى الآية تشجيع المؤمنين، والأمر بالاقتداء بمن تقدّم من خِيار أتباع الأنبياء أي كثير من الأنبياء قُتِل معه رِبِّيُّون كثير، أو كثير من الأنبياء قتِلوا فما ٱرتدّ أممهم قولان: الأوّل للحسن وسعيد بن جبير. قال الحسن: ما قُتِل نبي في حرب قط. وقال ابن جبير: ما سمعنا أن نبياً قتل في القتال. والثاني عن قتادة وعكرمة. والوقف ـ على هذا القول ـ على «قُتِل» جائز، وهي قراءة نافع وابن جبير وأبي عمرو ويعقوب.

السابقالتالي
2 3