الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَٱلْكَاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ }

فيه أربع مسائل: الأولى: قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ } هذا من صفة المتقين الذين أعِدَت لهم الجنة، وظاهر الآية أنها مدح بفعل المندوب إليه. و { السَّرَّآءِ } اليسر { وَٱلضَّرَّآءِ } العسر قاله آبن عباس والكلبي ومقاتل. وقال عبيد بن عمير والضحاك: السرّاء والضرّاء الرخاء والشدّة. ويقال في حال الصحة والمرض. وقيل: في السرّاء في الحياة، وفي الضرّاء يعني يوصى بعد الموت. وقيل في السراء في العرس والولائم، وفي الضرّاء في النوائب والمآتم. وقيل: في السرّاء النفقة التي تسرّكم مثل النفقة على الأولاد والقرابات، والضرّاء على الأعداء. ويقال: في السرّاء ما يضيف به الفتى ويُهْدى إليه. والضرّاء ما ينفقه على أهل الضر ويتصدق به عليهم. قلت: ـ والآية تعم. ثم قال تعالى: { وَٱلْكَاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ } وهي المسألة: الثانية: وكَظم الغيظ ردّه في الجوف يقال: كظم غيظة أي سكت عليه ولم يظهره مع قدرته على إيقاعة بعدّوه، وكظمت السِّقاء أي ملأته وسددت عليه، والكظامة ما يسدّ به مجرى الماء ومنه الكِظام للسير الذي يسدّ به فَمُ الزَّقّ والقربة. وكظم البعير جرته إذا ردّها في جوفه وقد يقال لحبسه الجِرّة قبل أن يرسلها إلى فيه: كظم حكاه الزجاج. يقال: كظم البعير والناقة إذا لم يَجْتَرَّا، ومنه قول الراعي:
فأفَضْنَ بعد كُظومِهِنَ بِجِرّةٍ   من ذي الأَبارِقِ إذ رَعَيْن حَقِيلا
والحقيل: موضع. والحقيل نبت. وقد قيل: إنها تفعل ذلك عند الفزع والجهد فلا تجترّ ـ قال أعشى باهِلة يصف رجلا نّحارا للإبل فهي تفزع منه:
قد تكْظِم البُزْلَ منه حين تُبْصِره   حتى تَقَطَّع في أجوافِها الجِرَرُ
ومنه: رجل كظِيم ومكظوم إذا كان ممتلئا غما وحزنا. وفي التنزيل:وَٱبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ ٱلْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } [يوسف: 84]ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ } [النحل: 58].إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ } [القلم: 48] والغيظ أصل الغضب، وكثيرا ما يتلازمان لكن فُرْقَانُ ما بينهما. أنّ الغيظ لا يظهر على الجوارح، بخلاف الغضب فإنه يظهر في الجوارح مع فعل مّا ولا بدّ ولهذا جاء إسناد الغضب إلى الله تعالى إذ هو عبارة عن أفعاله في المغضوب عليهم. وقد فسر بعض الناس الغيظ بالغضب وليس بجيد، والله أعلم. الثالثة: قوله تعالى: { وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ } العفو عن الناس أَجلُّ ضُرُوب فعل الخير حيث يجوز للإنسان أن يعفو وحيث يتّجه حقه. وكل من استحق عقوبة فتُرِكت له فقد عُفي عنه. واختلف في معنى «عَن النَّاسِ» فقال أبو العالية والكلبي والزجاج: { والعافين عن الناس } يريد عن المماليك. قال ٱبن عطية: وهذا حسن على جهة المثال إذ هُم الخَدَمَة فهم يذنبون كثيرا والقدرة عليهم متيسرة، وإنفاذ العقوبة سهل فلذلك مثل هذا المفسَّر به. ورُوي عن ميمون بن مهران أن جاريته جاءت ذات يوم بصحفة فيها مَرَقَة حارّة، وعنده أضياف فعثرت فصبت المرقة عليه، فأراد ميمون أن يضربها، فقالت الجارية: يا مولاي، ٱستعمل قول الله تعالى: { وَٱلْكَاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ }.

السابقالتالي
2