فيه ست مسائل: الأولىٰ: أكّد الله تعالىٰ الزَّجْر عن الركُون إلى الكفار. وهو متصل بما سبق من قوله: { إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ }. والبِطَانَةُ مصدر، يُسَمّى به الواحد والجمع. وبِطَانَةُ الرجل خاصَّتُه الذين يستبطنون أمرَه، وأصله من البَطْن الذي هو خلاف الظَّهْر. وبَطن فلان بفلان يبْطُن بُطوناً وبِطَانَةً إذا كان خاصّاً به. قال الشاعر:
أُولٰئِك خُلْصائي نَعْم وَبِطَانَتِي
وهم عَيْبَتِي من دون كلّ قَريبِ
الثانية: نهى الله عزّ وجلّ المؤمنين بهذه الآية أن يَتَّخِذوا من الكفار واليهود وأهل الأهْوَاء دُخَلاءَ ووُلَجاء، يفاوضونهم في الآراء، ويسندون إليهم أمورهم. ويُقال: كل من كان على خلاف مَذْهَبك ودينك فلا ينبغي لك أن تحادثه قال الشاعر:
عن الْمَرءِ لاَ تَسْألْ وَسَلْ عن قَرِينهِ
فَكلُّ قَرِينٍ بِالمُقارن يَقْتَدِي
وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل " وروي عن ٱبن مسعود أنه قال: ٱعتبروا الناس بإخوانهم. ثم بيّن تعالىٰ المعنى الذي لأجله نهى عن المواصلة فقال: { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } يقول فساداً. يعني لا يتركون الجهد في فسادكم، يعني أنهم وإن لم يقاتلوكم في الظاهر فإنهم لا يتركون الجهد في المكر والخديعة، على ما يأتي بيانه. وروي عن أبي أمَامَة " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: في قول الله تعالىٰ: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } قال: «هم الخوارج» " ورُوي أن أبا موسىٰ الأشعري ٱستكتب ذِمّياً فكتب إليه عمر يعنِّفه وتلا عليه هذه الآية. وقدِم أبو موسىٰ الأشعري على عمر رضي الله عنهما بحساب فرفعه إلى عمر فأعجبه، وجاء عمر كتابٌ فقال لأبي موسى: أين كاتبك يقرأ هذا الكتاب على الناس؟ فقال: إنه لا يدخل المسجد. فقال: لِم أجُنُبٌ هو؟ قال: إنه نصراني فانتهره وقال: لا تُدْنِهم وقد أقصاهم الله، ولا تُكرمهم وقد أهانهم الله، ولا تَأْمَنهم وقد خوّنهم الله. وعن عمر رضي الله عنه قال: لا تستعملوا أهل الكتاب إنهم يستحلون الرُّشا، واستعينوا على أموركم وعلى رعيتكم بالذين يخشون الله تعالىٰ. وقيل لعمر رضي الله عنه: إن هٰهنا رجلاً من نصارى الحِيرة لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم أفلا يكتب عنك؟ فقال: لا آخذ بِطانة من دون المؤمنين. فلا يجوز ٱستكتاب أهل الذِّمة، ولا غير ذلك من تصرفاتهم في البيع والشراء والاستنابة إليهم. قلت: وقد ٱنقلبت الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبةً وأمناء وتَسوَّدُوا بذلك عند الجَهَلة الأغْبِياء من الوُلاة والأمراء. روى البخاريّ عن أبي سعيدٍ الخدرِيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: