الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } * { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي ٱلصَّالِحِينَ }

قوله تعالى: { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً } نزلت في سعد بن أبي وقّاص فيما روى الترمذي قال: أنزلت فيّ أربعُ آيات فذَكَر قصةً فقالت أم سعد: أليس قد أمر الله بالبرٰ والله لا أطعم طعاماً، ولا أشرب شراباً حتى أموت أو تكفر قال: فكانوا إذا أرادوا أن يُطعموها شَجَرُوا فَاهَا فنزلت هذه الآية. { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً } الآية. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وروي عن سعد أنه قال: كنت باراً بأمي فأسلمتُ، فقالت: لتدعنّ دينك أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعيَّر بي، ويقال يا قاتل أمه، وبقيت يوماً ويوماً فقلت: يا أماهٰ لو كانت لك مائة نفس، فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني هذا، فإن شئت فكلي، وإن شئت فلا تأكلي، فلما رأت ذلك أكلت ونزلت: { وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي } الآية. وقال ابن عباس: نزلت في عيّاش بن أبي ربيعة أخي أبي جهل لأمه وقد فعلت أمه مثل ذلك. وعنه أيضاً: نزلت في جميع الأمة إذ لا يصبر على بلاء الله إلا صدّيق. و { حُسْناً } نصب عند البصريين على التكرير أي ووصيناه حسناً. وقيل: هو على القطع تقديره، ووصيناه بالحسن كما تقول وصيته خيراً أي بالخير. وقال أهل الكوفة: تقديره ووصينا الإنسان أن يفعل حسناً فيقدر له فعل. وقال الشاعر:
عَجبتُ من دَهْمَاء إذ تَشكونَا   ومن أبي دَهْمَاءَ إذ يُوصينَا
خيـراً بهـا كـأنّمـا خـافـونـا   
أي يوصينا أن نفعل بها خيراً كقوله:فَطَفِقَ مَسْحاً } [صۤ: 33] أي يمسح مسحاً. وقيل: تقديره ووصيناه أمراً ذا حسنٍ، فأقيمت الصفة مقام الموصوف، وحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقيل: معناه ألزمناه حسناً. وقراءة العامة: { حُسْناً } بضم الحاء وإسكان السين. وقرأ أبو رجاء وأبو العالية والضحاك: بفتح الحاء والسين. وقرأ الجحدري: { إحْسَاناً } على المصدر وكذلك في مصحف أُبيّ، التقدير: ووصينا الإنسان أن يحسن إليهما إحسانا، ولا ينتصب بوصينا لأنه قد استوفى مفعوليه. { إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } وعيد في طاعة الوالدين في معنى الكفر. { فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي ٱلصَّالِحِينَ } كرر تعالى التمثيل بحالة المؤمنين العاملين لتحرك النفوس إلى نيل مراتبهم. وقوله: { لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي ٱلصَّالِحِينَ } مبالغة على معنى فالذين هم في نهاية الصلاح وأبعد غاياته. وإذا تحصل للمؤمن هذا الحكم تحصل ثمرته وجزاؤه وهو الجنة.