الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَٱعْبُدُونِ } * { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } * { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ ٱلْجَنَّةِ غُرَفَاً تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَامِلِينَ } * { ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } * { وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ٱللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ }

قوله تعالى: { يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ } هذه الآية نزلت في تحريض المؤمنين الذين كانوا بمكة على الهجرة ـ في قول مقاتل والكلبي ـ فأخبرهم الله تعالى بسعة أرضه، وأن البقاء في بقعة على أذى الكفار ليس بصواب. بل الصواب أن يتلمس عبادة الله في أرضه مع صالحي عباده أي إن كنتم في ضيق من إظهار الإيمان بها فهاجروا إلى المدينة فإنها واسعة لإظهار التوحيد بها. وقال ابن جبير وعطاء: إن الأرض التي فيها الظلم والمنكر تترتب فيها هذه الآية، وتلزم الهجرة عنها إلى بلد حق. وقاله مالك. وقال مجاهد: { إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ } فهاجروا وجاهدوا. وقال مُطرِّف بن الشِّخِّير: المعنى إن رحمتي واسعة. وعنه أيضاً: إن رزقي لكم واسع فابتغوه في الأرض. قال سفيان الثوري: إذا كنت بأرض غالية فانتقل إلى غيرها تملأ فيها جرابك خبزاً بدرهم. وقيل: المعنى: إن أرضي التي هي أرض الجنة واسعة. { فَٱعْبُدُونِ } حتى أورثكموها. { فَإيَّايَ فَاعْبُدُونِ } { إِيَّايَ } منصوب بفعل مضمر، أي فاعبدوا إياي فاعبدون، فاستغنى بأحد الفعلين عن الثاني، والفاء في قوله: { فَإِيَّايَ } بمعنى الشرط أي إن ضاق بكم موضع فإياي فاعبدوني في غيره لأن أرضي واسعة. قوله تعالى: { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } تقدّم في «آل عمران». وإنما ذكره هاهنا تحقيراً لأمر الدنيا ومخاوفها. كأن بعض المؤمنين نظر في عاقبةٍ تلحقه في خروجه من وطنه من مكة أنه يموت أو يجوع أو نحو هذا، فحقر الله شأن الدنيا. أي أنتم لا محالة ميتون ومحشورون إلينا، فالبدار إلى طاعة الله والهجرة إليه وإلى ما يمتثل. ثم وعد المؤمنين العاملين بسكنى الجنة تحريضاً منه تعالى وذكر الجزاء الذي ينالونه، ثم نعتهم بقوله: { ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } وقرأ أبو عمر ويعقوب والجحدري وابن أبي إسحاق وابن محيصن والأعمش وحمزة والكسائي وخلف: { يَا عِبَادِي } بإسكان الياء. وفتحها الباقون. { إِنَّ أَرْضِي } فتحها ابن عامر. وسكنها الباقون. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من فرّ بدينه من أرض إلى أرض ولو قيد شبر استوجب الجنة وكان رفيق محمد وإبراهيم " عليهما السلام. { ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُون }. وقرأ السلميّ وأبو بكر عن عاصم: { يُرْجَعُونَ } بالياء لقوله: { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } وقرأ الباقون بالتاء، لقوله: { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا } وأنشد بعضهم:
الموتُ في كلِّ حينٍ يَنْشُدُ الكَفنَا   ونحن في غفلةٍ عَمَّا يُرادُ بِنَا
لا تَركننَّ إلى الدّنيا وزَهْرتِها   وإن تَوشَّحْتَ من أثوابها الحَسَنا
أينَ الأحبةُ والجيرانُ ما فَعَلُوا   أينَ الذين هُمُو كانوا لها سَكَنَا
سَقَاهُمُ الموتُ كأساً غيرَ صافيةٍ   صيرهم تحت أطباقِ الثَّرَى رُهُنَا
قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ ٱلْجَنَّةِ غُرَفَاً } وقرأ ابن مسعود والأعمش ويحيـى بن وثّاب وحمزة والكسائي { لَنُثْوِيَنَّهُمْ } بالثاء مكان الباء من الثوى وهو الإقامة أي لنعطينهم غرفاً يثوون فيها.

السابقالتالي
2 3