الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ ٱلْمُبْطِلُونَ }

فيه ثلاث مسائل: الأولى: قوله تعالى: { وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ } الضمير في { قَبْلِهِ } عائد إلى الكتاب وهو القرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم أي وما كنت يا محمد تقرأ قبله، ولا تختلف إلى أهل الكتاب، بل أنزلناه إليك في غاية الإعجاز والتضمين للغيوب وغير ذلك، فلو كنت ممن يقرأ كتاباً، ويخط حروفاً { لاَّرْتَابَ ٱلْمُبْطِلُونَ } أي من أهل الكتاب، وكان لهم في ارتيابهم متعلَّق، وقالوا الذي نجده في كتبنا أنه أميّ لا يكتب ولا يقرأ وليس به. قال مجاهد: كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم لا يخط ولا يقرأ فنزلت هذه الآية قال النحاس: دليلاً على نبوته لقريش لأنه لا يقرأ ولا يكتب ولا يخالط أهل الكتاب ولم يكن بمكة أهل الكتاب فجاءهم بأخبار الأنبياء والأمم، وزالت الريبة والشك. الثانية: ذكر النقاش في تفسير هذه الآية عن الشعبي أنه قال: ما مات النبي صلى الله عليه وسلم حتى كتب. وأسند أيضاً حديث أبي كَبْشة السَّلُولي مضمنه: أنه صلى الله عليه وسلم قرأ صحيفة لعُيَيْنة بن حِصن، وأخبر بمعناها. قال ابن عطية: وهذا كله ضعيف، وقول الباجي رحمه الله منه. قلت: وقع في «صحيح مسلم» من حديث البراء في صلح الحديبية " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: «اكتب الشرط بيننا بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما قضى عليه محمد رسول الله» فقال له المشركون: لو نعلم أنك رسول الله تابعناك ـ وفي رواية بايعناك ـ ولكن اكتب محمد بن عبد الله فأمر عليًّا أن يمحوها، فقال علي: والله لا أمحاه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرني مكانها» فأراه فمحاها وكتب ابن عبد الله " قال علماؤنا رضي الله عنهم وظاهر هذا أنه عليه السلام محا تلك الكلمة التي هي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيده، وكتب مكانها ابن عبد الله. وقد رواه البخاري بأظهر من هذا. فقال: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب فكتب. وزاد في طريق أخرى: ولا يحسن أن يكتب. فقال جماعة، بجواز هذا الظاهر عليه وأنه كتب بيده، منهم السمناني وأبو ذرّ والباجي، ورأوا أن ذلك غير قادح في كونه أميّاً، ولا معارَض بقوله: { وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } ولا بقوله: " إنا أمة أميّة لا نكتب ولا نحسب " بل رأوه زيادة في معجزاته، واستظهاراً على صدقه وصحة رسالته، وذلك أنه كتب من غير تعلم لكتابة، ولا تعاطٍ لأسبابها، وإنما أجرى الله تعالى على يده وقلمه حركات كانت عنها خطوط مفهومها ابن عبد الله لمن قرأها، فكان ذلك خارقاً للعادة كما أنه عليه السلام علِم عِلم الأوّلين والآخرين من غير تعلم ولا اكتساب، فكان ذلك أبلغ في معجزاته، وأعظم في فضائله.

السابقالتالي
2