الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِىءِ ٱلْوَادِي ٱلأَيْمَنِ فِي ٱلْبُقْعَةِ ٱلْمُبَارَكَةِ مِنَ ٱلشَّجَرَةِ أَن يٰمُوسَىٰ إِنِّيۤ أَنَا ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ }

قوله تعالى: { فَلَمَّآ أَتَاهَا } يعني الشجرة قدم ضميرها عليها. { نُودِيَ مِن شَاطِىءِ ٱلْوَادِي } { مِن } الأولى والثانية لابتداء الغاية، أي أتاه النداء من شاطىء الوادي من قبل الشجرة. و { مِنَ الشَّجَرَةِ } بدل من قوله: { مِنْ شَاطِىءِ الْوَادِ } بدل الاشتمال لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطىء، وشاطىء الوادي وشطه جانبه، والجمع شُطَّان وشواطىء، ذكره القشيري. وقال الجوهري: ويقال شاطىء الأودية ولا يجمع. وشاطأت الرجل إذا مشيت على شاطىء ومشى هو على شاطىء آخر. { ٱلأَيْمَنِ } أي عن يمين موسى. وقيل: عن يمين الجبل. { فِي ٱلْبُقْعَةِ ٱلْمُبَارَكَةِ } وقرأ الأشهب العقيلي: { فِي الْبَقْعَةِ } بفتح الباء. وقولهم بِقعا يدلّ على بَقْعة كما يقال جَفْنة وجِفَان. ومن قال بُقْعة قال بُقَع مثل غُرْفة وغُرَف. { مِنَ ٱلشَّجَرَةِ } أي من ناحية الشجرة. قيل: كانت شجرة العلَّيق. وقيل: سَمُرة وقيل: عَوْسج. ومنها كانت عصاه ذكره الزمخشري. وقيل: عُنَّاب، والعَوْسج إذا عظم يقال له الغَرْقَد. وفي الحديث: إنه من شجر اليهود فإذا نزل عيسى وقتل اليهود الذين مع الدّجال فلا يختفي أحد منهم خلف شجرة إلا نطقت وقالت يا مسلم هذا يهودي ورائي تعال فاقتله إلا الغَرْقَد فإنه من شجر اليهود فلا ينطق. خرجه مسلم. قال المهدوي: وكلم الله تعالى موسى عليه السلام من فوق عرشه وأسمعه كلامه من الشجرة على ما شاء. ولا يجوز أن يوصف الله تعالى بالانتقال والزوال وشِبه ذلك من صفات المخلوقين. قال أبو المعالي: وأهل المعاني وأهل الحق يقولون مَن كلمه الله تعالى وخصّه بالرتبة العليا والغاية القصوى، فيدرك كلامه القديم المتقدس عن مشابهة الحروف والأصوات والعبارات والنغمات وضروب اللغات، كما أن مَن خصه الله بمنازل الكرامات وأكمل عليه نعمته، ورزقه رؤيته يرى الله سبحانه منزّهاً عن مماثلة الأجسام وأحكام الحوادث، ولا مثل له سبحانه في ذاته وصفاته، وأجمعت الأمة على أن الرب تعالى خصص موسى عليه السلام وغيره من المصطفين من الملائكة بكلامه. قال الأستاذ أبو إسحاق: اتفق أهل الحق على أن الله تعالى خلق في موسى عليه السلام معنى من المعاني أدرك به كلامه كان اختصاصه في سماعه، وأنه قادر على مثله في جميع خلقه. واختلفوا في نبينا عليه السلام هل سمع ليلة الإسراء كلام الله، وهل سمع جبريل كلامه على قولين وطريق أحدهما النقل المقطوع به وذلك مفقود، واتفقوا على أن سماع الخلق له عند قراءة القرآن على معنى أنهم سمعوا العبارة التي عرفوا بها معناه دون سماعه له في عينه. وقال عبد الله بن سعد بن كلاب: إن موسى عليه السلام فهم كلام الله القديم من أصوات مخلوقة أثبتها الله تعالى في بعض الأجسام. قال أبو المعالي: وهذا مردود بل يجب اختصاص موسى عليه السلام بإدراك كلام الله تعالى خرقاً للعادة، ولو لم يُقَلَ ذلك لم يكن لموسى عليه السلام اختصاص بتكليم الله إياه.

السابقالتالي
2