الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ٱمْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ ٱلرِّعَآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } * { فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى ٱلظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } * { فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى ٱسْتِحْيَآءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ ٱلْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } * { قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يٰأَبَتِ ٱسْتَئْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ ٱسْتَئْجَرْتَ ٱلْقَوِيُّ ٱلأَمِينُ } * { قَالَ إِنِّيۤ أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ٱبْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } * { قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا ٱلأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ }

فيه أربع وعشرون مسألة: الأولى: قوله تعالى: { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ } مشى موسى عليه السلام حتى ورد ماء مدين أي بلغها. ووروده الماء معناه بلغه لا أنه دخل فيه. ولفظة الورود قد تكون بمعنى الدخول في المورود، وقد تكون بمعنى الاطلاع عليه والبلوغ إليه وإن لم يدخل. فورود موسى هذا الماء كان بالوصول إليه ومنه قول زهير:
فَلمَّا وَرَدْنَ الماءَ زُرْقاً جِمَامُهُ   وَضَعْن عِصِيَّ الحاضِرِ المُتَخَيمِ
وقد تقدّمت هذه المعاني في قوله:وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } [مريم: 71]. ومدين لا تنصِرف إذ هي بلدة معروفة. قال الشاعر:
رُهبانُ مدينَ لو رأوكِ تَنَزَّلُوا   والعُصْمُ من شَعَفِ الجبالِ الفَادِرِ
وقيل: قبيلة من ولد مدين بن إبراهيم وقد مضى القول فيه في «الأعراف». والأمة: الجمع الكثير. و { يَسْقُونَ } معناه ماشيتهم. و { مِن دُونِهِمُ } معناه ناحية إلى الجهة التي جاء منها، فوصل إلى المرأتين قبل وصوله إلى الأمّة، ووجدهما تذودان ومعناه تمنعان وتحبسان، ومنه قوله عليه السلام: " فلَيُذَادَنَّ رجالٌ عن حوضي " وفي بعض المصاحف: { امرأتين حابستين تذودان } يقال: ذاد يذود إذا حبس. وذُدت الشيء حبسته قال الشاعر:
أَبِيت على باب القَوَافِي كأنَّمَا   أذُودُ بها سِرْباً من الوحشِ نُزَّعَا
أي أحبس وأمنع. وقيل: { تَذُودَانِ } تطردان قال:
لقد سَلبتْ عصاك بنو تميم   فما تَدْرِي بأيِّ عصاً تَذُودُ
أي تطرد وتكفّ وتمنع. ابن سلام: تمنعان غنمهما لئلا تختلط بغنم الناس فحذف المفعول: إما إيهاماً على المخاطب، وإما استغناء بعلمه. قال ابن عباس: تذودان غنمهما عن الماء خوفاً من السقاة الأقوياء. قتادة: تذودان الناس عن غنمهما قال النحاس: والأوّل أولى لأن بعده { قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ } ولو كانتا تذودان عن غنمهما الناس لم تخبرا عن سبب تأخير سقيهما حتى يصدر الرعاء. فلما رأى موسى عليه السلام ذلك منهما { قَالَ مَا خَطْبُكُمَا } أي شأنكما قال رؤبة:
يا عَجباً ما خَطْبُه وخَطبِي   
ابن عطية: وكان استعمال السؤال بالخَطْب إنما هو في مصاب، أو مضطهد، أو من يشفق عليه، أو يأتي بمنكر من الأمر، فكأنه بالجملة في شر فأخبرتاه بخبرهما، وأن أباهما شيخ كبير فالمعنى: لا يستطيع لضعفه أن يباشر أمر غنمه، وأنهما لضعفهما وقلة طاقتهما لا تقدران على مزاحمة الأقوياء، وأن عادتهما التأنّي حتى يُصدِر الناسُ عن الماء ويخلى وحينئذٍ تَرِدان. وقرأ ابن عامر وأبو عمرو: { يَصْدُرَ } من صَدَرَ، وهو ضد وَرَدَ أي يرجع الرِّعاء. والباقون { يُصْدِرَ } بضم الياء من أصدر أي حتى يصدروا مواشيهم من وِرْدهم. والرِّعاء جمع راع مثل تاجر وتِجار، وصاحب وِصحاب. قالت فرقة: كانت الآبار مكشوفة، وكان زحْم الناس يمنعهما، فلما أراد موسى أن يسقي لهما زَحَم الناس وغلبهم على الماء حتى سقى، فعن هذا الغَلَب الذي كان منه وصفته إحداهما بالقوّة.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9