الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِيۤ أَمْ تَكُونُ مِنَ ٱلَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ } * { فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ } * { وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ ٱللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ }

قوله تعالى: { قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا } أي غيِّروه. قيل: جعل أعلاه أسفله، وأسفله أعلاه. وقيل: غيِّر بزيادة أو نقصان. قال الفرّاء وغيره: إنما أمر بتنكيره لأن الشياطين قالوا له: إن في عقلها شيئاً فأراد أن يمتحنها. وقيل: خافت الجن أن يتزوّج بها سليمان فيولد له منها ولد فيبقون مسخَّرين لآل سليمان أبداً، فقالوا لسليمان: إنها ضعيفة العقل، ورجلها كرجل الحمار فقال: { نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا } لنعرف عقلها. وكان لسليمان ناصح من الجن، فقال كيف لي أن أرى قدميها من غير أن أسألها كشفها؟ فقال: أنا أجعل في هذا القصر ماء، وأجعل فوق الماء زجاجاً، تظن أنه ماء فترفع ثوبها فترى قدميها فهذا هو الصرح الذي أخبر الله تعالى عنه. قوله تعالى: { فَلَمَّا جَآءَتْ } يريد بلقيس، { قِيلَ } لها { أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ } شبهته به لأنها خلفته تحت الأغلاق، فلم تقرّ بذلك ولم تنكر، فعلم سليمان كمال عقلها. قال عكرمة: كانت حكيمة فقالت: { كَأَنَّهُ هُوَ }. وقال مقاتل: عرفته ولكن شَبَّهت عليهم كما شَبَّهوا عليها ولو قيل لها: أهذا عرشك لقالت نعم هو وقاله الحسن بن الفضل أيضاً. وقيل: أراد سليمان أن يظهر لها أنّ الجن مسخَّرون له، وكذلك الشياطين لتعرف أنها نبوّة وتؤمن به. وقد قيل هذا في مقابلة تعميتها الأمر في باب الغلمان والجواري. { وَأُوتِينَا ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا } قيل: هو من قول بلقيس أي أوتينا العلم بصحة نبوّة سليمان من قبل هذه الآية في العرش { وَكُنَّا مُسْلِمِينَ } منقادين لأمره. وقيل: هو من قول سليمان أي أوتينا العلم بقدرة الله على ما يشاء من قبل هذه المرّة. وقيل: { وَأُوتِينَا الْعِلْمَ } بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها. وقيل: هو من كلام قوم سليمان. والله أعلم. قوله تعالى: { وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ ٱللَّهِ } الوقف على { مِنْ دُونِ اللَّهِ } حسن والمعنى: منعها من أن تعبد الله ما كانت تعبد من الشمس والقمر فـ { ـما } في موضع رفع. النحاس: المعنى أي صدها عبادتها من دون الله وعبادتها إياها عن أن تعلم ما علمناه عن أن تسلم. ويجوز أن يكون { ما } في موضع نصب، ويكون التقدير: وصدها سليمان عما كانت تعبد من دون الله أي حال بينها وبينه. ويجوز أن يكون المعنى: وصدها الله أي منعها الله عن عبادتها غيره فحذفت { عن } وتعدى الفعل. نظيره:وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ } [الأعراف: 155] أي من قومه. وأنشد سيبويه:
ونُبِّئْتُ عبدَ الله بالجوِّ أصبحتْ   كِراماً مواليها لئيما صمِيمُها
وزعم أن المعنى عنده نبئت عن عبد الله. { إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ } قرأ سعيد بن جبير: { أنها } بفتح الهمزة، وهي في موضع نصب بمعنى لأنها. ويجوز أن يكون بدلاً من { ما } فيكون في موضع رفع إن كانت { ما } فاعلة الصد. والكسر على الاستئناف.