الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ ٱلْمُرْسَلُونَ }

فيه ست مسائل: الأولى: قوله تعالى: { وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ } هذا من حسن نظرها وتدبيرها أي إني أجرب هذا الرجل بهدية، وأعطيه فيها نفائس من الأموال، وأغرب عليه بأمور المملكة: فإن كان ملكاً دنياوياً أرضاه المال وعملنا معه بحسب ذلك، وإن كان نبياً لم يرضه المال ولاَزَمَنا في أمر الدِّين، فينبغي لنا أن نؤمن به ونتبعه على دينه، فبعثت إليه بهدية عظيمة أكثر الناس في تفصيلها، فقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: أرسلت إليه بلَبِنة من ذهب، فرأت الرسل الحيطان من ذهب فصغُر عندهم ما جاؤوا به. وقال مجاهد: أرسلت إليه بمائتي غلام ومائتي جارية. وروي عن ابن عباس: باثنتي عشرة وصيفة مذكَّرين قد ألبستهم زيّ الغلمان، واثني عشر غلاماً مؤنثين قد ألبستهم زيّ النساء، وعلى يد الوصائف أطباق مسك وعنبر، وباثنتي عشرة نجيبة تحمل لَبِن الذّهب، وبخرزتين إحداهما غير مثقوبة، والأخرى مثقوبة ثَقْباً معوجاً، وبقدح لا شيء فيه، وبعصا كان يتوارثها ملوك حِميَر، وأنفذت الهدية مع جماعة من قومها. وقيل: كان الرسول واحداً ولكن كان في صحبته أتباع وخدم. وقيل: أرسلت رجلاً من أشراف قومها يقال له المنذر بن عمرو، وضمت إليه رجالاً ذوي رأي وعقل، والهدية مائة وصيف ومائة وصيفة، قد خولف بينهم في اللباس، وقالت للغلمان: إذا كلَّمكم سليمان فكلِّموه بكلام فيه تأنيث يشبه كلام النساء، وقالت للجواري: كلِّمنه بكلام فيه غِلظ يشبه كلام الرجال فيقال: إن الهدهد جاء وأخبر سليمان بذلك كله. وقيل: إن الله أخبر سليمان بذلك، فأمر سليمان عليه السلام أن يبسط من موضعه إلى تسع فراسخ بلبنات الذهب والفضة، ثم قال: أيّ الدواب رأيتم أحسن في البر والبحر؟ قالوا: يا نبيّ الله رأينا في بحر كذا دواب مُنقَّطة مختلفة ألوانها، لها أجنحة وأعراف ونواصي فأمر بها فجاءت فشدّت على يمين الميدان وعلى يساره، وعلى لبِنات الذهب والفضة، وألقوا لها علوفاتها ثم قال: للجن عليّ بأولادكم فأقامهم ـ أحسن ما يكون من الشباب ـ عن يمين الميدان ويساره. ثم قعد سليمان عليه السلام على كرسيه في مجلسه، ووضع له أربعة آلاف كرسيّ من ذهب عن يمينه ومثلها عن يساره، وأجلس عليها الأنبياء والعلماء، وأمر الشياطين والجن والإنس أن يصطفوا صفوفاً فراسخ، وأمر السباع والوحوش والهوام والطير فاصطفوا فراسخ عن يمينه وشماله، فلما دنا القوم من الميدان ونظروا إلى مُلك سليمان، ورأوا الدواب التي لم تر أعينهم أحسن منها تَروث على لبِنات الذهب والفضة، تقاصرت إليهم أنفسهم، ورموا ما معهم من الهدايا. وفي بعض الروايات: إن سليمان لما أمرهم بفرش الميدان بلبِنَات الذهب والفضة أمرهم أن يتركوا على طريقهم موضعاً على قدر موضع بساط من الأرض غير مفروش، فلما مروا به خافوا أن يتهموا بذلك فطرحوا ما معهم في ذلك المكان، فلما رأوا الشياطين رأوا منظراً هائلاً فظيعاً ففزعوا وخافوا، فقالت لهم الشياطين: جُوزُوا لا بأس عليكم فكانوا يمرون على كُرْدُوس كُرْدُوس من الجنّ والإنس والبهائم والطير والسباع والوحوش حتى وقفوا بين يدي سليمان، فنظر إليهم سليمان نظراً حسناً بوجه طَلْق، وكانت قالت لرسولها: إن نظر إليك نظر مغضَب فاعلم أنه ملِك فلا يهولنّك منظره فأنا أعز منه، وإن رأيت الرجل بشًّا لطيفاً فاعلم أنه نبيّ مرسل فتفهم قوله وردّ الجواب، فأخبر الهدهد سليمان بذلك على ما تقدّم.

السابقالتالي
2 3 4