الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَتْ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ أَفْتُونِي فِيۤ أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ } * { قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَٱلأَمْرُ إِلَيْكِ فَٱنظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ } * { قَالَتْ إِنَّ ٱلْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوۤاْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً وَكَذٰلِكَ يَفْعَلُونَ }

فيه ثلاث مسائل: الأولى: قوله تعالى: { قَالَتْ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ أَفْتُونِي فِيۤ أَمْرِي } الملأ أشراف القوم وقد مضى في سورة «البقرة» القول فيه. قال ابن عباس: كان معها ألف قَيْل. وقيل: اثنا عشر ألف قَيْل مع كل قَيْل مائة ألف. والقَيْل الملِك دون الملِك الأعظم. فأخذت في حسن الأدب مع قومها، ومشاورتهم في أمرها، وأعلمتهم أن ذلك مطرد عندها في كل أمر يعرض، بقولها: { مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ } فكيف في هذه النازلة الكبرى. فراجعها الملأ بما يقر عينها، من إعلامهم إياها بالقوّة والبأس، ثم سلّموا الأمر إلى نظرها وهذه محاورة حسنة من الجميع. قال قتادة: ذكر لنا أنه كان لها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً هم أهل مشورتها، كل رجل منهم على عشرة آلاف. الثانية: في هذه الآية دليل على صحة المشاورة. وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ } [آل عمران: 159] في «آل عمران» إما استعانة بالآراء، وإما مداراة للأولياء. وقد مدح الله تعالى الفضلاء بقوله:وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ } [الشورى: 38]. والمشاورة من الأمر القديم وخاصة في الحرب فهذه بلقيس امرأة جاهلية كانت تعبد الشمس: { قَالَتْ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ أَفْتُونِي فِيۤ أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ } لتختبر عزمهم على مقاومة عدوهم، وحزمهم فيما يقيم أمرهم، وإمضائهم على الطاعة لها، بعلمها بأنهم إن لم يبذلوا أنفسهم وأموالهم ودماءهم دونها لم يكن لها طاقة بمقاومة عدوها، وإن لم يجتمع أمرهم وحزمهم وجِدّهم كان ذلك عوناً لعدوهم عليهم، وإن لم تختبر ما عندهم، وتعلم قدر عزمهم لم تكن على بصيرة من أمرهم، وربما كان في استبدادها برأيها وهن في طاعتها، ودخيلة في تقدير أمرهم، وكان في مشاورتهم وأخذ رأيهم عون على ما تريده من قوّة شوكتهم، وشدّة مدافعتهم ألا ترى إلى قولهم في جوابهم: { نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ }. قال ابن عباس: كان من قوّة أحدهم أنه يَركُض فرسَه حتى إذا احتدّ ضم فخذيه فحبسه بقوّته. الثالثة: قوله تعالى: { وَٱلأَمْرُ إِلَيْكِ فَٱنظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ } سلّموا الأمر إلى نظرها مع ما أظهروا لها من القوّة والبأس والشدّة، فلما فعلوا ذلك أخبرت عند ذلك بفعل الملوك بالقُرى التي يتغلبون عليها. وفي هذا الكلام خوف على قومها، وحيطة واستعظام لأمر سليمان عليه السلام. { وَكَذٰلِكَ يَفْعَلُونَ } قيل: هو من قول بلقيس تأكيداً للمعنى الذي أرادته. وقال ابن عباس: هو من قول الله عز وجل معرِّفاً لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته بذلك ومخبراً به. وقال وهب: لما قرأت عليهم الكتاب لم تعرف اسم الله، فقالت: ما هذا؟ٰ فقال بعض القوم: ما نظن هذا إلا عفريتاً عظيماً من الجن يقتدر به هذا الملك على ما يريده فسكَّتوه.

السابقالتالي
2