الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَتَفَقَّدَ ٱلطَّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى ٱلْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ ٱلْغَآئِبِينَ } * { لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَاْذبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } * { فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } * { إِنِّي وَجَدتُّ ٱمْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } * { وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ } * { أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ ٱلَّذِي يُخْرِجُ ٱلْخَبْءَ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } * { ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ } * { قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْكَاذِبِينَ } * { ٱذْهَب بِّكِتَابِي هَـٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَٱنْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ }

فيه ثماني عشرة مسألة: الأولى: قوله تعالى: { وَتَفَقَّدَ ٱلطَّيْرَ } ذكر شيئاً آخر مما جرى له في مسيره الذي كان فيه من النمل ما تقدّم. والتفقد تطلّب ما غاب عنك من شيء. والطير اسم جامع والواحد طائر، والمراد بالطير هنا جنس الطير وجماعتها. وكانت تصحبه في سفره وتظله بأجنحتها. واختلف الناس في معنى تفقده للطير فقالت فرقة: ذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك، والتَّهمُّم بكل جزء منها وهذا ظاهر الآية. وقالت فرقة: بل تفقد الطير لأن الشمس دخلت من موضع الهدهد حين غاب فكان ذلك سبب تفقد الطير ليتبيّن من أين دخلت الشمس. وقال عبد الله ابن سَلاَم: إنما طلب الهدهد لأنه احتاج إلى معرفة الماء على كم هو من وجه الأرض لأنه كان نزل في مفازة عُدِم فيها الماء، وأن الهدهد كان يرى باطن الأرض وظاهرها فكان يخبر سليمان بموضع الماء، ثم كانت الجنّ تخرجه في ساعة يسيرة تسلخ عنه وجه الأرض كما تسلخ الشاة قاله ابن عباس فيما روى عن ابن سَلاَم. قال أبو مِجْلَز قال ابن عباس لعبد الله بن سَلاَم: أريد أن أسألك عن ثلاث مسائل قال: أتسألني وأنت تقرأ القرآن؟ قال: نعم ثلاث مرات. قال: لم تفقد سليمان الهدهد دون سائر الطير؟ قال: احتاج إلى الماء ولم يعرف عمقه ـ أو قال مسافته ـ وكان الهدهد يعرف ذلك دون سائر الطير فتفقده. وقال في كتاب النقاش: كان الهدهد مهندساً. وروي أن نافع بن الأزرق سمع ابن عباس يذكر شأن الهدهد فقال له: قف يا وقّاف كيف يرى الهدهد باطن الأرض وهو لا يرى الفخّ حين يقع فيه؟ٰ فقال له ابن عباس: إذا جاء القدر عَمِي البصر. وقال مجاهد: قيل لابن عباس كيف تفقّد الهدهد من الطير؟ فقال: نزل منزلاً ولم يدر ما بُعْد الماء، وكان الهدهد مهتدياً إليه، فأراد أن يسأله. قال مجاهد: فقلت كيف يهتدي والصبيّ يضع له الحِبَالة فيصيده؟ٰ فقال: إذا جاء القدر عَمِيَ البصر. قال ابن العربي: ولا يقدر على هذا الجواب إلا عالم القرآن. قلت: هذا الجواب قد قاله الهدهد لسليمان كما تقدّم. وأنشدوا:
إذا أراد الله أمراً بامرىءٍ   وكان ذا عقلٍ ورأيٍ ونَظَرْ
وحيلةٍ يعملها في دفع ما   يأتي بِه مكروهُ أسبابِ القَدَرْ
غَطَّى عليه سمعَه وعقلَه   وسَلَّه من ذهنه سلَّ الشّعَرْ
حتى إذا أنفذ فيه حكمه   ردّ عليه عقلَه ليعتبرْ
قال الكلبي: لم يكن له في مسيره إلا هدهد واحد. والله أعلم. الثانية: في هذه الآية دليل على تفقد الإمام أحوال رعيته والمحافظة عليهم. فانظر إلى الهدهد مع صغره كيف لم يخف على سليمان حاله، فكيف بعظام المُلْك.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد