الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْس وَٱلطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ }

فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: { وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ } { حُشِرَ } جُمِع والحشر الجمع ومنه قوله عز وجل:وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } [الكهف: 47] واختلف الناس في مقدار جند سليمان عليه السلام فيقال: كان معسكره مائة فرسخ في مائة: خمسة وعشرون للجن، وخمسة وعشرون للإنس، وخمسة وعشرون للطير، وخمسة وعشرون للوحش، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة وسبعمائة سَرِيّة. ابن عطية: واختلف في معسكره ومقدار جنده اختلافاً شديداً غير أن الصحيح أن ملكه كان عظيماً ملأ الأرض، وانقادت له المعمورة كلها. { فَهُمْ يُوزَعُونَ } معناهُ يُردّ أولهم إلى آخرهم ويُكفّون. قال قتادة: كان لكل صنف وَزَعة في رتبتهم ومواضعهم من الكرسيّ ومن الأرض إذا مشوا فيها. يقال: وزَعته أوزعه وزَعَا أي كففته. والوازع في الحرب الموكل بالصفوف يزع من تقدم منهم. روى محمد بن إسحاق عن أسماء بنت أبي بكر قالت: لما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي طوى ـ تعني يوم الفتح ـ قال أبو قحافة وقد كُفَّ بصرُه يومئذٍ لابنته: اظهري بي على أبي قُبَيْس. قالت: فأشرفت به عليه فقال: ما ترين؟ قالت: أرى سواداً مجتمعاً. قال تلك الخيل. قالت وأرى رجلاً من السواد مقبلاً ومدبراً. قال: ذلك الوازع يمنعها أن تنتشر. وذكر تمام الخبر. ومن هذا قوله عليه السلام: " «ما رؤي الشيطان يوماً هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزُّل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر» قيل: وما رأى يا رسول الله؟ قال: «أما أنه رأى جبريل يزع الملائكة» " خرّجه الموطأ. ومن هذا المعنى قول النابغة:
على حينَ عاتبتُ المَشيبَ على الصِّبَا   وقلت أَلَمَّا أَصْحُ والشَّيْبُ وازِعُ
آخر:
ولما تَلاقَينا جرت من جُفوننا   دموعٌ وَزَعْنا غَرْبَها بالأَصابِعِ
آخر:
ولا يَزَعُ النفس اللَّجُوجَ عن الهوى   من الناس إلا وافرُ العقل كامله
وقيل: هو من التوزيع بمعنى التفريق. والقوم أوزاع أي طوائف. وفي القصة: إن الشياطين نسجت له بساطاً فرسخاً في فرسخ ذهباً في إبريسم، وكان يوضع له كرسيّ من ذهب وحوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب وفضة فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب، والعلماء على كراسي الفضة. الثانية: في الآية دليل على اتخاذ الإمام والحكام وَزَعة يكفّون الناس ويمنعونهم من تطاول بعضهم على بعض إذ لا يمكن الحكام ذلك بأنفسهم. وقال ابن عون: سمعت الحسن يقول وهو في مجلس قضائه لما رأى ما يصنع الناس قال: والله ما يُصلح هؤلاء الناسَ إلا وَزَعةٌ. وقال الحسن أيضاً: لا بدّ للناس من وازع أي من سلطان يكفهم.

السابقالتالي
2