الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ ٱلْغَاوُونَ } * { أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ } * { وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ } * { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱنتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ وَسَيَعْلَمْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ }

قوله تعالى: { وَٱلشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ ٱلْغَاوُونَ } فيه ست مسائل: الأولى: قوله تعالى: { وَٱلشُّعَرَآءُ } جمع شاعر مثل جاهل وجهلاء قال ابن عباس: هم الكفار { يَتَّبِعُهُمُ } ضلاّل الجن والإنس. وقيل: { الْغَاوُونَ } الزائلون عن الحق، ودلّ بهذا أن الشعراء أيضاً غاوون لأنهم لو لم يكونوا غاوين ما كان أتباعهم كذلك. وقد قدمنا في سورة «النور» أن من الشعر ما يجوز إنشاده، ويكره، ويحرم. روى مسلم من حديث " عمرو بن الشَّريد عن أبيه قال: ردِفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: «هل معك من شعر أمية بن أبي الصَّلْت شيء» قلت: نعم. قال: «هِيه» فأنشدته بيتاً. فقال: «هِيه» ثم أنشدته بيتاً. فقال: «هِيه» حتى أنشدته مائة بيت " هكذا صواب هذا السند وصحيح روايته. وقد وقع لبعض رواة كتاب مسلم: عن عمرو بن الشَّريد عن الشَّريد أبيه وهو وَهَم لأن الشريد هو الذي أردفه رسول الله صلى الله عليه وسلم. واسم أبي الشَّريد سُوَيْد. وفي هذا دليل على حفظ الأشعار والاعتناء بها إذا تضمنت الحِكَم والمعاني المستحسنة شرعاً وطبعاً، وإنما استكثر النبي صلى الله عليه وسلم من شعر أمية لأنه كان حكيماً ألا ترى قوله عليه السلام: " وكاد أمية بن أبي الصَّلْت أن يسلم " فأما ما تضمن ذكر الله وحمده والثناء عليه فذلك مندوب إليه، كقول القائل:
الحمد لله العليّ المنان   صار الثريد في رؤوس العيدان
أو ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مدحه كقول العباس:
مِن قبلها طِبْتَ في الظِّلال وفي مُسـ   ـتودعٍ حيث يُخصَفُ الورقُ
ثم هبطت البلاد لا بشرٌ أنـ   ـتَ ولا مُضْغةٌ ولا عَلَقُ
بل نطفة تركب السَّفِينَ وقد أَلْـ   ـجَمَ نَسْراً وأهلَه الغَرَقُ
تنقُل مِن صَالبٍ إلى رَحِمٍ   إذا مَضَى عالَمٌ بَدَا طَبَقُ
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يفَضُضِ الله فاك " أو الذبّ عنه كقول حسان:
هجوتَ محمداً فأجبتُ عنه   وعند اللَّهِ في ذاك الجزاءُ
وهي أبيات ذكرها مسلم في صحيحه وهي في السير أتم. أو الصلاة عليه كما روى زيد بن أسلم خرج عمر ليلة يحرس فرأى مصباحاً في بيت، وإذا عجوز تنفش صوفاً وتقول:
على محمدٍ صلاةُ الأبرار   صلى عليه الطيِّبون الأخيارْ
قد كنتَ قوّاماً بُكاً بالأسحارْ   يا ليتَ شِعْري والمنايا أطوارْ
هل يَـجـمـعنِّـي وحبـيـبـي الـدارْ   
يعني النبي صلى الله عليه وسلم فجلس عمر يبكي. وكذلك ذكر أصحابه ومدحهم رضي الله عنهم ولقد أحسن محمد بن سابق حيث قال:
إنِّي رضيتُ عليّاً للهُدَى عَلَماً   كما رضيتُ عَتيقاً صاحبَ الغارِ
وقد رضيتُ أبا حفصٍ وشيعَتُه   وما رضيتُ بقتل الشيخِ في الدارِ
كلُّ الصحابة عندي قُدوةٌ عَلَمٌ   فهل عليّ بهذا القول من عارِ
إن كنتَ تعلم أَنِّي لا أحبُّهُم   إلا من أجلك فاعتقني من النار

السابقالتالي
2 3 4 5 6