الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَٱجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } * { أُوْلَـٰئِكَ يُجْزَوْنَ ٱلْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً } * { خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } * { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً }

قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } قال الضحاك: أي مطيعين لك. وفيه جواز الدعاء بالولد وقد تقدّم. والذرّية تكون واحداً وجمعاً. فكونها للواحد قوله:رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } [آل عمران: 38]فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً } [مريم: 5] وكونها للجمعذُرِّيَّةً ضِعَافاً } [النساء: 9] وقد مضى في «البقرة» اشتقاقها مستوفى. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر والحسن: { وَذُرِّيَّاتِنَا } وقرأ أبو عمر وحمزة والكسائيّ وطلحة وعيسى: { وذريتِنا } بالإفراد. { قُرَّةَ أَعْيُنٍ } نصب على المفعول، أي قرّة أعين لنا. وهذا نحو قوله عليه الصلاة والسلام لأنس:«اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه» وقد تقدّم بيانه في «آل عمران» و«مريم». وذلك أن الإنسان إذا بورك له في ماله وولده قرّت عينه بأهله وعياله، حتى إذا كانت عنده زوجة اجتمعت له فيها أمانيه من جمال وعفة ونظر وحوطة أو كانت عنده ذرّية محافظون على الطاعة، معاونون له على وظائف الدِّين والدنيا، لم يلتفت إلى زوج أحد ولا إلى ولده، فتسكن عينه عن الملاحظة، ولا تمتد عينه إلى ما ترى فذلك حين قرّة العين، وسكون النفس. ووحّد { قُرّة } لأنه مصدر تقول: قرّت عينك قُرّة. وقُرّة العين يحتمل أن تكون من القرار، ويحتمل أن تكون من القُرّ وهو الأشهر. والقُرّ البرد لأن العرب تتأذى بالحر وتستريح إلى البرد. وأيضاً فإن دمع السرور بارد، ودمع الحزن سخن، فمن هذا يقال: أقرّ الله عينك، وأسخن الله عين العدو. وقال الشاعر:
فكم سَخِنتْ بالأمس عينٌ قرِيرةٌ   وقَرّت عيونٌ دمعُها اليومَ ساكبُ
قوله تعالى: { وَٱجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } أي قدوة يقتدى بنا في الخير، وهذا لا يكون إلا أن يكون الداعي متقياً قدوة وهذا هو قصد الداعي. وفي «الموطأ»: «إنكم أيها الرهط أئمة يقتدى بكم» فكان ابن عمر يقول في دعائه: اللهم اجعلنا من أئمة المتقين. وقال: { إِماماً } ولم يقل أئمة على الجمع لأن الإمام مصدر. يقال: أمّ القوم فلان إماماً مثل الصيام والقيام. وقال بعضهم: أراد أئمة، كما يقول القائل أميرنا هؤلاء، يعني أمراءنا. وقال الشاعر:
يا عاذلاتي لا تَزِدْنَ مَلامَتِي   إنّ العواذل لَسْنَ لِي بأميرِ
أي أمراء. وكان القشيري أبو القاسم شيخ الصوفية يقول: الإمامة بالدعاء لا بالدعوى، يعني بتوفيق الله وتيسيره ومنته لا بما يدّعيه كل أحد لنفسه. وقال إبراهيم النَّخعيّ: لم يطلبوا الرياسة بل بأن يكونوا قدوة في الدِّين. وقال ابن عباس: اجعلنا أئمة هدى، كما قال تعالى:وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } [السجدة: 24] وقال مكحول: اجعلنا أئمة في التقوى يقتدي بنا المتقون. وقيل: هذا من المقلوب مجازه: واجعل المتقين لنا إماماً وقاله مجاهد. والقول الأوّل أظهر وإليه يرجع قول ابن عباس ومكحول، ويكون فيه دليل على أن طلب الرياسة في الدين ندب.

السابقالتالي
2 3 4