الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً }

فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ } أي لا يحضرون الكذب والباطل ولا يشاهدونه. والزور كل باطل زُوّر وزُخرِف، وأعظمه الشرك وتعظيم الأنداد. وبه فسر الضحاك وابن زيد وابن عباس. وفي رواية عن ابن عباس أنه أعياد المشركين. عِكرمة: لعبٌ كان في الجاهلية يسمى بالزور. مجاهد: الغناء وقاله محمد بن الحنفية أيضاً. ابن جُريج: الكذب وروي عن مجاهد. وقال عليّ بن أبي طلحة ومحمد بن عليّ: المعنى لا يشهدون بالزور، من الشهادة لا من المشاهدة. قال ابن العربي: أما القول بأنه الكذب فصحيح، لأن كل ذلك إلى الكذب يرجع، وأما من قال إنه لعِبٌ كان في الجاهلية فإنه يحرم ذلك إذا كان فيه قمار أو جهالة، أو أمر يعود إلى الكفر، وأما القول بأنه الغناء فليس ينتهي إلى هذا الحد. قلت: من الغناء ما ينتهي سماعه إلى التحريم، وذلك كالأشعار التي توصف فيها الصور المستحسنات والخمر وغير ذلك مما يحرك الطباع ويخرجها عن الاعتدال، أو يثير كامناً من حب اللهو مثل قول بعضهم:
ذهبيّ اللون تحسب من   وجنتيه النار تُقتدَحُ
خوّفوني من فضيحته   ليته وافى وأفتضِحُ
لا سيما إذا اقترن بذلك شبّابَات وطارات مثل ما يفعل اليوم في هذه الأزمان، على ما بيناه في غير هذا الموضع. وأما من قال إنه شهادة الزور وهي: الثانية: فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجلد شاهد الزور أربعين جلدة، ويسخّم وجهه، ويحلق رأسه، ويطوف به في السوق. وقال أكثر أهل العلم: ولا تقبل له شهادة أبداً وإن تاب وحسنت حاله فأمره إلى الله. وقد قيل: إنه إذا كان غير مبرَّز فحسنت حاله قبلت شهادته حسبما تقدّم بيانه في سورة «الحج» فتأمله هناك. قوله تعالى: { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } قد تقدّم الكلام في اللغو، وهو كل سقط من قول أو فعل فيدخل فيه الغناء واللهو وغير ذلك مما قاربه، ويدخل فيه سفه المشركين وأذاهم المؤمنين وذكر النساء وغير ذلك من المنكر. وقال مجاهد: إذا أوذوا صفحوا. وروي عنه: إذا ذكر النكاح كنُّوا عنه. وقال الحسن: اللغو المعاصي كلها. وهذا جامع. و { كِرَاماً } معناه معرضين منكرين لا يرضَونه، ولا يمالؤون عليه، ولا يجالسون أهله. أي مروا مرّ الكرام الذين لا يدخلون في الباطل. يقال: تكرم فلان عما يشينه، أي تنزّه وأكرم نفسه عنه. وروي " أن عبد الله بن مسعود سمع غناء فأسرع وذهب، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «لقد أصبح ابن أمّ عبدٍ كريماً» " وقيل: من المرور باللغو كريماً أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.