الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً }

قوله تعالى: { وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً } لما ذكر جهالات المشركين وطعنهم في القرآن والنبوة ذكر عباده المؤمنين أيضاً وذكر صفاتهم، وأضافهم إلى عبوديته تشريفاً لهم، كما قال:سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ } [الإسراء: 1] وقد تقدّم. فمن أطاع الله وعبده وشغل سمعه وبصره ولسانه وقلبه بما أمره فهو الذي يستحق اسم العبودية، ومن كان بعكس هذا شمله قوله تعالى:أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } [الأعراف: 179] يعني في عدم الاعتبار كما تقدّم في «الأعراف». وكأنه قال: وعباد الرحمن هم الذين يمشون على الأرض، فحذف هم كقولك: زيد الأمير، أي زيد هو الأمير. فـ { ـالَّذِينَ } خبر مبتدأ محذوف قاله الأخفش. وقيل: الخبر قوله في آخر السورة: { أُوْلَـٰئِكَ يُجْزَوْنَ ٱلْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ } وما بين المبتدأ والخبر أوصاف لهم وما تعلق بها قاله الزجاج. قال: ويجوز أن يكون الخبر { ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ }. و { يَمْشُونَ } عبارة عن عيشهم ومدة حياتهم وتصرفاتهم، فذكر من ذلك العظم، لا سيما وفي ذلك الانتقال في الأرض وهو معاشرة الناس وخلطتهم. قوله تعالى: { هَوْناً } الهون مصدر الهيِّن وهو من السكينة والوقار. وفي «التفسير»: يمشون على الأرض حلماء متواضعين، يمشون في اقتصاد. والقصد والتؤدة وحسن السَّمْت من أخلاق النبوة. وقال صلى الله عليه وسلم: " أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس في الإيضاع " وروي في صفته صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا زال زال تقلعاً، ويخطو تكفؤاً، ويمشي هوناً، ذرِيع المِشية إذا مشى كأنما ينحط من صَبَب. التقلع، رفع الرجل بقوّة والتكفؤ: الميل إلى سنن المشي وقصده. والهون الرفق والوقار. والذريع الواسع الخطا أي أن مشيه كان يرفع فيه رجله بسرعة ويمد خطوه خلاف مِشية المختال، ويقصد سمته وكل ذلك برفق وتثبت بدون عجلة. كما قال: كأنما ينحط من صَبَب قاله القاضي عِياض. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسرع جِبلة لا تكلفاً. قال الزهريّ: سرعة المشي تذهب بهاء الوجه. قال ابن عطية: يريد الإسراع الحثيث لأنه يخل بالوقار والخير في التوسط. وقال زيد بن أسلم: كنت أسأل عن تفسير قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً } فما وجدت من ذلك شفاء، فرأيت في المنام من جاءني فقال لي: هم الذين لا يريدون أن يفسدوا في الأرض. قال القُشَيريّ: وقيل لا يمشون لإفساد ومعصية، بل في طاعة الله والأمورِ المباحة من غير هوك. وقد قال الله تعالى:وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } [لقمان: 18]. وقال ابن عباس: بالطاعة والمعروف والتواضع. الحسن حلماء إن جهل عليهم لم يجهلوا. وقيل: لا يتكبرون على الناس. قلت: وهذه كلها معانٍ متقاربة، ويجمعها العلم بالله والخوف منه، والمعرفة بأحكامه والخشية من عذابه وعقابه جعلنا الله منهم بفضله ومنّه.

السابقالتالي
2 3