الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً }

قوله تعالى: { وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ نُشُراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } تقدم في «الأعراف» مستوفى. قوله تعالى: { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً }. فيه خمس عشرة مسألة: الأولى: قوله تعالى: { مَآءً طَهُوراً } يتطهر به كما يقال: وضوء للماء الذي يتوضأ به. وكل طهور طاهر وليس كل طاهر طهوراً. فالطَّهور بفتح الطاء الاسم. وكذلك الوضوء والوقود. وبالضم المصدر، وهذا هو المعروف في اللغة قاله ابن الأنباريّ. فبيّن أن الماء المنزل من السماء طاهر في نفسه مطهِّر لغيره فإن الطهور بناء مبالغة في طاهر، وهذه المبالغة اقتضت أن يكون طاهراً مطهراً. وإلى هذا ذهب الجمهور. وقيل: إن { طَهُوراً } بمعنى طاهر وهو قول أبي حنيفة وتعلق بقوله تعالى:وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } [الإنسان: 21] يعني طاهراً. وبقول الشاعر:
خليليّ هل في نظرة بعد توبة   أداوي بها قلبي عليّ فُجورُ
إلى رُجَّحِ الأكفالِ غِيدٍ من الظِّبا   عِذاب الثنايا رِيقُهنَّ طَهُورُ
فوصف الريق بأنه طهور وليس بمطهر. وتقول العرب: رجل نؤوم وليس ذلك بمعنى أنه منيم لغيره، وإنما يرجع ذلك إلى فعل نفسه. ولقد أجاب علماؤنا عن هذا فقالوا: وصف شراب الجنة بأنه طهور يفيد التطهير عن أوضار الذنوب وعن خسائس الصفات كالغِل والحَسَد، فإذا شربوا هذا الشراب يطهرهم الله من رحض الذنوب وأوضار الاعتقادات الذميمة، فجاؤوا الله بقلب سليم، ودخلوا الجنة بصفات التسليم، وقيل لهم حينئذٍ:سَلاَمٌ عَلَيْكُـمْ طِبْتُمْ فَٱدْخُلُوهَا خَالِدِينَ } [الزمر: 73]. ولما كان حكمه في الدنيا بزوال حكم الحدث بجريان الماء على الأعضاء كانت تلك حكمته ورحمته في الآخرة. وأما قول الشاعر:
... رِيقُهُن طَهُورُ   
فإنه قصد بذلك المبالغة في وصف الريق بالطهورية لعذوبته وتعلقه بالقلوب، وطيبه في النفوس، وسكون غليل المحب برشفه حتى كأنه الماء الطهور، وبالجملة فإن الأحكام الشرعية لا تثبت بالمجازاة الشعرية فإن الشعراء يتجاوزون في الاستغراق حدّ الصدق إلى الكذب، ويسترسلون في القول حتى يخرجهم ذلك إلى البدعة والمعصية، وربما وقعوا في الكفر من حيث لا يشعرون. ألا ترى إلى قول بعضهم:
ولو لم تُلامِسْ صفحةُ الأرضِ رجلَها   لما كنتُ أدري عِلَّةً للتيمم
وهذا كفر صراح، نعوذ بالله منه. قال القاضي أبو بكر بن العربي: هذا منتهى لباب كلام العلماء، وهو بالغ في فنِّه إلا أني تأملت من طريق العربية فوجدت فيه مطلعاً مشرقاً، وهو أن بناء فعول للمبالغة، إلا أن المبالغة قد تكون في الفعل المتعدّي كما قال الشاعر:
ضَروبٌ بنصل السيفِ سُوقَ سِمانها   
وقد تكون في الفعل القاصر كما قال الشاعر:
نؤوم الضُّحا لم تَنْتَطِقْ عن تَفَضُّلِ   
وإنما تؤخذ طهورية الماء لغيره من الحسن نظافة ومن الشرع طهارة كقوله عليه السلام: " لا يقبل الله صلاة بغير طهور " وأجمعت الأمة لغة وشريعة على أن وصف طهور يختص بالماء فلا يتعدى إلى سائر المائعات وهي طاهرة فكان اقتصارهم بذلك على الماء أدّل دليل على أن الطهور هو المطهر، وقد يأتي فعول لوجه آخر ليس من هذا كله وهو العبارة به عن الآلة للفعل لا عن الفعل كقولنا: وَقُود وسَحُور بفتح الفاء، فإنها عبارة عن الحطب والطعم المتسحر به فوصف الماء بأنه طهور بفتح الطاء أيضاً يكون خبراً عن الآلة التي يتطهر بها.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد