الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } * { أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً }

قوله تعالى: { وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ } هذا تنبيه على عظم قدر يوم القيامة أي قصدنا في ذلك إلى ما كان يعمله المجرمون من عمل بَرٍّ عند أنفسهم. يقال: قدِم فلان إلى أمر كذا أي قصده. وقال مجاهد: { قَدِمْنَا } أي عمدنا. وقال الراجز:
وقَدِم الخوارجُ الضُّلالُ   إلى عِباد ربِّهم فقالوا
إن دماءكم لنا حلالُ   
وقيل: هو قدوم الملائكة، أخبر به عن نفسه تعالى فاعله. { فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } أي لا ينتفع به أي أبطلناه بالكفر. وليس { هَبَاءً } من ذوات الهمز وإنما همزت لالتقاء الساكنين. والتصغير هُبَيٌّ في موضع الرفع، ومن النحويين من يقول: هُبَيٍّ في موضع الرفع حكاه النحاس. وواحده هباة والجمع أهباء. قال الحارث بن حلِّزة يصف ناقة:
فَتَرى خِلْفَها من الرَّجْعِ والوَقْـ   ـعِ مَنِيناً كأنه أهباء
وروى الحرث عن علي قال: الهباء المنثور شعاع الشمس الذي يدخل من الكوّة. وقال الأزهريّ: الهباء ما يخرج من الكوّة في ضوء الشمس شبيه بالغبار. تأويله: إن الله تعالى أحبط أعمالهم حتى صارت بمنزلة الهباء المنثور. فأما الهباء المنبث فهو ما تثيره الخيل بسنابكها من الغبار. والمنبث المتفرق. وقال ابن عرفة: الهبوَة والهبَاء التراب الدقيق. الجوهري: ويقال له إذا ارتفع هبَا يَهْبُو هُبُوًّا وأهبيته أنا. والهَبْوة الغَبْرة. قال رؤبة:
تَبْدُو لنا أعلاَمُه بعد الغَرَقْ   في قِطَعِ الآلِ وهَبْوَاتِ الدُّقَقْ
وموضعٌ هابِي التراب أي كأن ترابه مثل الهباءِ في الرقة. وقيل: إنه ما ذرته الرياح من يابس أوراق الشجر قاله قتادة وابن عباس. وقال ابن عباس أيضاً: إنه الماء المهراق. وقيل: إنه الرماد قاله عبيد بن يعلى. قوله تعالى: { أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً }. تقدم القول فيه عند قوله تعالى:قُلْ أَذٰلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ ٱلْخُلْدِ ٱلَّتِي وَعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ } [الفرقان: 15]. قال النحاس: والكوفيون يجيزون «العسل أحلى من الخل» وهذا قول مردود لأن معنى فلان خير من فلان أنه أكثر خيراً منه ولا حلاوة في الخل. ولا يجوز أن يقال: النصراني خير من اليهودي لأنه لا خير فيهما فيكون أحدهما أزيد في الخير. لكن يقال: اليهودي شر من النصراني فعلى هذا كلام العرب. و«مُسْتَقَرًّا» نصب على الظرف إذا قدر على غير باب «أفعل منك» والمعنى لهم خير في مستقر. وإذا كان من باب «أفعل منك» فانتصابه على البيان قاله النحاس والمهدوي. قال قتادة: { وَأَحْسَنُ مقِيلاً } منزلاً ومأوى. وقيل: هو على ما تعرفه العرب من مقيل نصف النهار. ومنه الحديث المرفوع: " إن الله تبارك وتعالى يفرغ من حساب الخلق في مقدار نصف يوم فيَقِيلُ أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار " ذكره المهدوِي. وقال ابن مسعود: لا ينتصف النهار يوم القيامة من نهار الدنيا حتى يقيل هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار، ثم قرأ: { ثم إِن مقِيلهم لإلى الجحيم } كذا هي في قراءة ابن مسعود.

السابقالتالي
2