الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا ٱلسَّبِيلَ } * { قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ وَلَـٰكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ حَتَّىٰ نَسُواْ ٱلذِّكْرَ وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً } * { فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً }

قوله تعالى: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ } قرأ ابن محيصِن وحميد وابن كثير وحفص ويعقوب وأبو عمرو في رواية الدورِيّ: { يَحْشُرُهُمْ } بالياء. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله في أول الكلام: «كَانَ عَلَى رَبِّكَ» وفي آخره { أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَأُلاءِ }. الباقون بالنون على التعظيم. { وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } من الملائكة والإنس والجن والمسيح وعُزير قاله مجاهد وابن جريج. الضحاك وعكرمة: الأصنام. { فَيَقُولُ } قراءة العامة بالياء وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. وقرأ ابن عامر وأبو حيوة بالنون على التعظيم. { أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا ٱلسَّبِيلَ } وهذا استفهام توبيخ للكفار. { قَالُواْ سُبْحَانَكَ } أي قال المعبودون من دون الله سبحانك أي تنزيهاً لك { مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ }. فإن قيل: فإن كانت الأصنام التي تعبد تحشر فكيف تنطق وهي جماد؟ قيل له: ينطقها الله تعالى يوم القيامة كما ينطق الأيدي والأرجل. وقرأ الحسن وأبو جعفر: { أَنْ نُتَّخَذُ } بضم النون وفتح الخاء على الفعل المجهول. وقد تكلم في هذه القراءة النحويون فقال أبو عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر: لا يجوز { نُتَّخَذَ }. وقال أبو عمرو: لو كانت { نُتَّخَذَ } لحذفت { مِن } الثانية فقلت: أن نُتَّخذ من دونك أولياء. كذلك قال أبو عبيدة، لا يجوز { نُتَّخَذَ } لأن الله تعالى ذكر { مِن } مرتين، ولو كان كما قرأ لقال: أن نُتخذ من دونك أولياءَ. وقيل: إن { مِن } الثانية صلة قال النحاس: ومثل أبي عمرو على جلالته ومحله يستحسن ما قال لأنه جاء ببينة. وشرح ما قال أنه يقال: ما اتخذت رجلاً ولِياً فيجوز أن يقع هذا للواحد بعينه ثم يقال: ما اتخذت من رجل ولياً فيكون نفياً عاماً، وقولك { وليا } تابع لما قبله فلا يجوز أن تدخل فيه { مِن } لأنه لا فائدة في ذلك. { وَلَـٰكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ } أي في الدنيا بالصحة والغنى وطول العمر بعد موت الرسل صلوات الله عليهم. { حَتَّىٰ نَسُواْ ٱلذِّكْرَ } أي تركوا ذكرك فأشركوا بك بطراً وجهلاً فعبدونا من غير أن أمرناهم بذلك. وفي الذكر قولان: أحدهما: القرآن المنزل على الرسل تركوا العمل به قاله ابن زيد. الثاني الشكر على الإحسان إليهم والإنعام عليهم. إنهم { وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً } أي هلكى قاله ابن عباس. مأخوذ من البوار وهو الهلاك. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه وقد أشرف على أهل حِمص: يا أهل حمص! هلم إلى أخ لكم ناصح، فلما اجتمعوا حوله قال: ما لكم لا تستحون! تبنون ما لا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون، وتأمُلون ما لا تدركون، إن من كان قبلكم بنوا مشيداً وجمعوا عبيداً، وأملوا بعيداً، فأصبح جمعهم بوراً، وآمالهم غروراً، ومساكنهم قبوراً.

السابقالتالي
2