الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِٱلأَبْصَارِ } * { يُقَلِّبُ ٱللَّهُ ٱللَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ }

قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً } ذكر من حججه شيئاً آخر أي ألم تر بعيْنَيْ قلبك. «يُزْجِي سَحَاباً» أي يسوق إلى حيث يشاء. والريح تُزْجِي السحاب، والبقرة تزجي ولدها أي تسوقه. ومنه زجا الخراجُ يزجو زَجاءً ممدوداً إذا تيسَّرت جِبايته. وقال النابغة:
إني أتيتك من أهلي ومن وطني   أزجِي حُشاشة نفسٍ ما بها رَمَقُ
وقال أيضاً:
أسْرَتْ عليه من الجوزاء سارِيَةٌ   تُزْجِي الشَّمالُ عليه جامدَ البَرَدِ
{ ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ } أي يجمعه عند انتشائه ليقوَى ويتَّصل ويَكْثُف. والأصل في التأليف الهمز، تقول: تألف. وقرىء «يُوَلِّف» بالواو تخفيفاً. والسحاب واحد في اللفظ، ولكن معناه جمع ولهذا قال: «يُنْشِىءُ السَّحاب». و«بين» لا يقع إلا لاثنين فصاعداً، فكيف جاز بينه؟ فالجواب أن «بينه» هنا لجماعة السحاب كما تقول: الشجر قد جلستُ بينه لأنه جمع، وذكّر الكناية على اللفظ قال معناه الفراء. وجواب آخر: وهو أن يكون السحاب واحداً فجاز أن يقال بينه لأنه مشتمل على قطع كثيرة، كما قال:
...... بـيـن الـدَّخُـول فـحَـوْمَـلِ   
فأوقع «بين» على الدخول، وهو واحد لاشتماله على مواضع. وكما تقول: ما زلت أدور بين الكوفة لأن الكوفة أماكن كثيرة قاله الزجاج وغيره. وزعم الأصْمَعِيّ أن هذا لا يجوز، وكان يروي:
......بـيـن الـدَّخُـول وحَـوْمَـلِ   
{ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً } أي مجتمعاً، يركب بعضه بعضاً كقوله تعالى:وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ } [الطور: 44]. والرَّكْمُ جمع الشيء يقال منه: رَكَم الشيء يَرْكُمُه رَكْماً إذا جمعه وألقى بعضه على بعض. وارتكم الشيءُ وتراكم إذا اجتمع. والرُّكْمة الطين المجموع. والرُّكَام: الرمل المتراكم. وكذلك السحاب وما أشبهه. ومُرْتَكَمُ الطريق بفتح الكاف جادّته. { فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } في «الوَدْق» قولان: أحدهما: أنه البرق قاله أبو الأشهب العقيلي. ومنه قول الشاعر:
أثرنا عَجاجة وخرجن منها   خروج الوَدْق من خَلَل السحاب
الثاني: أنه المطر قاله الجمهور. ومنه قول الشاعر:
فلا مُزْنة ودَقَتْ ودْقَها   ولا أرضَ أبْقَلَ إبقالها
وقال امرؤ القيس:
فدمعهما وَدْقٌ وسَحٌّ ودِيمَةٌ   وسَكْبٌ وَتَوْكَافٌ وتَنْهَمِلانِ
يقال: ودَقَت السحابة فهي وادقة. ووَدَق المطر يَدِق ودْقاً أي قَطَر. ووَدَقْتُ إليه دنوت منه. وفي المثل: وَدَق العَيْرُ إلى الماء أي دنا منه. يُضرب لمن خضع للشيء لحرصه عليه. والموضع مَوْدِق. ووَدَقْتُ به وَدْقاً استأنستُ به. ويقال لذات الحافر إذا أرادت الفحل: ودَقَتْ تَدِق وَدْقاً، وأوْدَقَتْ واستودَقَتْ. وأتان وَدُوق وفرس وَدُوق، ووَدِيق أيضا، وبها وِداق. والوَدِيقة: شدّة الحَرّ. وخِلال جمع خَلَل مثلُ الجبل والجبال، وهي فُرَجُه ومخارج القطر منه. وقد تقدم في «البقرة» أن كعباً قال: إن السحاب غِرْبال المطر لولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض. وقرأ ابن عباس والضحاك وأبو العالية «من خلله» على التوحيد.

السابقالتالي
2