الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ }

قوله تعالى: { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ } ضرب تعالى مثلاً آخر للكفار، أي أعمالهم كسراب بقِيعة أو كظلمات. قال الزجاج: إن شئت مثِّل بالسّراب وإن شئت مثِّل بالظلمات فـ«ـأوْ» للإباحة حسبما تقدم من القول فيأَوْ كَصَيِّبٍ } [البقرة: 19]. وقال الجُرْجَانِيّ: الآية الأولى في ذكر أعمال الكفار، والثانية في ذكر كفرهم، ونسق الكفر على أعمالهم لأن الكفر أيضاً من أعمالهم، وقد قال تعالى:يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } [البقرة: 257] أي من الكفر إلى الإيمان. وقال أبو عليّ: «أوْ كظلمات» أو كذي ظلمات ودل على هذا المضافِ قوله تعالى: { إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ } فالكناية تعود إلى المضاف المحذوف. قال القشيريّ: فعند الزجاج التمثيل وقع لأعمال الكفار، وعند الجُرْجاني لكفر الكافر، وعند أَبي عليّ للكافر. وقال ابن عباس في رواية: هذا مَثَل قلب الكافر. { فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ } قيل: هو منسوب إلى اللُّجّة، وهو الذي لا يُدْرك قعره. واللُّجّة معظم الماء، والجمع لجج. والتَجّ البحر إذا تلاطمت أمواجه ومنه ما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من رَكب البحر إذا التَجّ فقد بَرِئت منه الذِّمة " والتجّ الأمر إذا عَظُم واختلط. وقوله تعالى:حَسِبَتْهُ لُجَّةً } [النمل: 44] أي ما له عمق. ولَجَّجتِ السفينة أي خاضت اللُّجة بضم اللام. فأما اللَّجّة بفتح اللام فأصوات الناس يقول: سمعت لَجَّةَ الناس أي أصواتهم وصَخَبهم. قال أبو النَّجْم:
فـي لَجَّـةٍ أمْسِـكْ فُـلاَنـاً عـن فُـلِ   
والتجت الأصوات أي اختلطت وعظمت. { يَغْشَاهُ مَوْجٌ } أي يعلو ذلك البحر اللُّجّيّ مَوْج. { مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ } أي من فوق الموج موجٌ، ومن فوق هذا الموج الثاني سحاب فيجتمع خوفُ الموج وخوف الريح وخوفُ السحاب. وقيل: المعنى يغشاه موج من بعده موج فيكون المعنى: المَوْج يتبع بعضه بعضاً حتى كأن بعضه فوق بعض، وهو أخوف ما يكون إذا توالى موجه وتقارب، ومن فوق هذا الموج سحاب. وهو أعظم للخوف من وجهين: أحدهما: أنه قد غَطَّى النجوم التي يُهتدَى بها. الثاني: الريح التي تنشأ مع السحابِ والمطر الذي ينزل منه. { ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } قرأ ابن مُحَيْصِن والبَزِّي عن ابن كثير «سحابُ ظلماتٍ» بالإضافة والخفض. قُنْبُل «سحابٌ» منوّناً «ظلماتٍ» بالجر والتنوين. الباقون بالرفع والتنوين. قال المهدوِيّ: من قرأ «مِنْ فوقه سحابُ ظلماتٍ» بالإضافة فلأن السحاب يرتفع وقت هذه الظلمات فأضيف إليها كما يقال: سحابُ رحمةٍ إذا ارتفع في وقت المطر. ومن قرأ «سحابٌ ظلماتٍ» جَرّ «ظلماتٍ» على التأكيد لـ«ـظلماتٍ» الأولى أو البدل منها. و«سحابٌ» ابتداء و«من فوقه» الخبر. ومن قرأ «سحابٌ ظلماتٌ» فظلمات خبر ابتداء محذوف التقدير: هي ظلمات أو هذه ظلمات. قال ابن الأنبارِيّ: «من فوقه موج» غير تام لأن قوله: «من فوقه سحاب» صلة للمَوْج، والوقف على قوله: «من فوقه سحاب» حَسَن، ثم تبتدىء «ظلماتٌ بعضها فوق بعض» على معنى هي ظلمات بعضها فوق بعض.

السابقالتالي
2