الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } * { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

فيه ست وعشرون مسألة: الأولى: هذه الآية نزلت في القاذفين. قال سعيد بن جُبير: كان سببها ما قيل في عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها. وقيل: بل نزلت بسبب القَذفة عامًّا لا في تلك النازلة. وقال ابن المنذر: لم نجد في أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم خبراً يدل على تصريح القذف، وظاهر كتاب الله تعالى مستغنًى به، دالاًّ على القذف الذي يوجب الحدّ، وأهل العلم على ذلك مجمعون. الثانية: قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ } يريد يسبُّون، واستعير له اسم الرَّمْي لأنه إذاية بالقول كما قال النابغة:
وجـرح الـلسـان كـجـرح الـيـد   
وقال آخر:
رَمَانِي بأمْرٍ كنتُ منه ووالدِي   بريئاً ومن أجْل الطَّوِيّ رمانِي
ويسمّى قذفاً ومنه الحديث: إن ابن أميّة قذف امرأته بشرِيك بن السّحماء أي رماها. الثالثة: ذكر الله تعالى في الآية النساء من حيث هن أهمّ، ورميهن بالفاحشة أشنع وأنكى للنفوس. وقَذْفُ الرجال داخل في حكم الآية بالمعنى، وإجماع الأمة على ذلك. وهذا نحو نصّه على تحريم لحم الخنزير ودخل شحمه وغضارِيفه، ونحو ذلك بالمعنى والإجماع. وحكى الزّهراوِيّ أن المعنى: والأنفس المحصنات فهي بلفظها تعم الرجال والنساء، ويدل على ذلك قوله:وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ } [النساء: 24]. وقال قوم: أراد بالمحصنات الفروج كما قال تعالى:وَٱلَّتِيۤ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } [الأنبياء: 91] فيدخل فيه فروج الرجال والنساء. وقيل: إنما ذكر المرأة الأجنبية إذا قُذفت ليعطف عليها قذف الرجل زوجته والله أعلم. وقرأ الجمهور «المحصَناتُ» بفتح الصاد، وكَسَرها يحيـى بن وَثّاب. والمحصَنات العفائف في هذا الموضع. وقد مضى في «النساء» ذكر الإحصان ومراتبه والحمد لله. الرابعة: للقذف شروط عند العلماء تسعة: شرطان في القاذف، وهما العقل والبلوغ لأنهما أصلا التكليف، إذ التكليف ساقط دونهما. وشرطان في الشيء المقذوف به، وهو أن يقذف بوطء يلزمه فيه الحد، وهو الزنى واللواط أو بنفيه من أبيه دون سائر المعاصي. وخمسة في المقذوف، وهي العقل والبلوغ والإسلام والحريّة والعفة عن الفاحشة التي رُمِيَ بها كان عفيفاً من غيرها أم لا. وإنما شرطنا في المقذوف العقل والبلوغ كما شرطناهما في القاذف وإن لم يكونا من معاني الإحصان لأجل أن الحدّ إنما وضع للزجر عن الإذاية بالمضرة الداخلة على المقذوف، ولا مضرّة على من عدم العقل والبلوغ إذ لا يوصف اللواط فيهما ولا منهما بأنه زنًى. الخامسة: اتفق العلماء على أنه إذا صرح بالزنى كان قذفاً ورَمْياً موجباً للحدّ، فإن عرّض ولم يُصرّح فقال مالك: هو قذف. وقال الشافعيّ وأبو حنيفة: لا يكون قذفاً حتى يقول أردت به القذف. والدليل لما قاله مالك هو أن موضوع الحدّ في القذف إنما هو لإزالة المعرّة التي أوقعها القاذف بالمقذوف، فإذا حصلت المعرّة بالتعريض وجب أن يكون قذفاً كالتصريح والمعوّل على الفهم وقد قال تعالى مخبراً عن شعيب:

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8