الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـٰهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ }

قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ } لما ضرب مثل المؤمن ضرب مثل الكافر. قال مقاتل: نزلت في شيبة بن ربيعة بن عبد شمس، كان يترهّب متلمّساً للدّين، فلما خرج صلى الله عليه وسلم كفر. أبو سهل: في أهل الكتاب. الضحاك: في أعمال الخير للكافر كصلة الرحم ونفع الجيران. والسراب: ما يُرَى نصف النهار في اشتداد الحَرّ، كالماء في المفاوز يلتصق بالأرض. والآلُ الذي يكون ضُحاً كالماء إلا أنه يرتفع عن الأرض حتى يصير كأنه بين الأرض والسماء. وسُمِّيَ السَّراب سراباً لأنه يَسْرُب أي يجري كالماء. ويقال: سَرَب الفحل أي مضى وسار في الأرض. ويسمى الآلَ أيضاً، ولا يكون إلا في البَرِّية والحر فيغترّ به العطشان. قال الشاعر:
فكنت كمُهْرِيق الذي في سِقائه   لِرَقراقِ آلٍ فوق رابِيَةٍ صَلْدِ
وقال آخر:
فلما كففنا الحرب كانت عهودهم   كلَمْع سراب بالفلا متألق
وقال امرؤ القيس:
ألم أُنْضِ المَطِيّ بكل خَرْقٍ   أَمَقِّ الطُّولِ لَمّاعِ السراب
والقيعة جمع القاع مثلُ جيرة وجار قاله الهَرَوِيّ وقال أبو عبيدة: قِيعةٌ وقاعٌ واحد حكاه النحاس. والقاع ما انبسط من الأرض واتسع ولم يكن فيه نبت، وفيه يكون السراب. وأصل القاع الموضعُ المنخفض الذي يستقر فيه الماء، وجمعه قِيعان. قال الجوهري: والقاع المستوي من الأرض والجمع أَقْوُع وأقواع وقِيعان، صارت الواو ياء لكسر ما قبلها والقِيعة مثل القاع، وهو أيضاً من الواو. وبعضهم يقول: هو جمع { يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ } أي العطشان. { مَآءً } أي يحسَب السّرَاب ماء. { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً } مما قدّره ووجد أرضاً لا ماء فيها. وهذا مَثَل ضربه الله تعالى للكفار، يُعَوِّلون على ثواب أعمالهم فإذا قدموا على الله تعالى وجدوا ثواب أعمالهم محبطة بالكفر أي لم يجدوا شيئاً كما لم يجد صاحب السّراب إلا أرضاً لا ماء فيها فهو يهلك أو يموت. { وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ } أي وجد الله بالمرصاد. { فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ } أي جزاء عمله. قال امرؤ القيس:
فَوَلَّى مُدْبِراً يَهْوي حَثِيثاً   وأيقن أنّه لاقَى الحِسَابَا
وقيل: وَجَد وعْد الله بالجزاء على عمله. وقيل: وجد أمر الله عند حَشْره والمعنى متقارب. وقرِىء «بقِيعَات». المهدوِيُّ: ويجوز أن تكون الألف مُشْبَعة من فتحة العين. ويجوز أن تكون مثل رَجُل عِزْهٍ وعِزْهاة، للذي لا يقرب النساء. ويجوز أن يكون جمع قِيعة، ويكون على هذا بالتاء في الوصل والوقف. وروي عن نافع وأبي جعفر وشيبة «الظمان» بغير همز، والمشهور عنهما الهمز يقال: ظمِىء يظمأ ظَمَأً فهو ظمآن، وإن خفّفت الهمزة قلت الظمان. وقوله: { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ } ابتداء { أَعْمَالُهُمْ } ابتداء ثان. والكاف من { كَسَرَابٍ } الخبرُ، والجملة خبر عن «الذين». ويجوز أن تكون «أعمالهم» بدلاً من «الذين كفروا» أي وأعمال الذين كفروا كسراب، فحذف المضاف.