الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلْيَسْتَعْفِفِ ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَٱلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيۤ آتَاكُمْ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ }

قوله تعالى: { وَلْيَسْتَعْفِفِ ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } فيه أربع مسائل: الأولى: قوله تعالى: { وَلْيَسْتَعْفِفِ ٱلَّذِينَ } الخطاب لمن يملك أمر نفسه، لا لمن زِمامه بيد غيره فإنه يقوده إلى ما يراه كالمحجور عليه ـ قولاً واحداً ـ والأَمةِ والعبد على أحد قولي العلماء. الثانية: «واستعفف» وزنه استفعل ومعناه طلب أن يكون عفيفاً فأمر الله تعالى بهذه الآية كلَّ من تعذّر عليه النكاح ولا يجده بأيّ وجهٍ تعذّرَ أن يستعفف. ثم لما كان أغلب الموانع عن النكاح عدم المال وعد بالإغناء من فضله فيرزقه ما يتزوّج به، أو يجد امرأة ترضى باليسير من الصداق، أو تزول عنه شهوة النساء. وروى النسائيّ عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاثة كلُّهم حقٌّ على الله عزّ وجل عونُهم المجاهدُ في سبيل الله والناكح الذي يريد العفاف والمكاتب الذي يريد الأداء ". الثالثة: قوله تعالى: { لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً } أي طَوْل نكاح فحذف المضاف. وقيل: النكاح هاهنا ما تُنكح به المرأة من المهر والنفقة كاللِّحاف اسم لما يُلتحف به. واللباس اسم لما يلبس فعلى هذا لا حذف في الآية، قاله جماعة من المفسرين وحملهم على هذا قوله تعالى: { حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } فظنوا أن المأمور بالاستعفاف إنما هو من عِدم المال الذي يتزوّج به. وفي هذا القول تخصيص المأمورين بالاستعفاف وذلك ضعيف، بل الأمر بالاستعفاف متوجّه لكل من تعذّر عليه النكاح بأيّ وجه تعذّرَ، كما قدمناه، والله تعالى أعلم. الرابعة: من تاقت نفسه إلى النكاح فإن وجد الطَّوْل فالمستحبّ له أن يتزوّج، وإن لم يجد الطول فعليه بالاستعفاف ما أمكن ولو بالصوم فإن الصوم له وِجَاء كما جاء في الخبر الصحيح. ومن لم تتق نفسه إلى النكاح فالأولى له التخلي لعبادة الله تعالى. وفي الخبر: " خيركم الخفيف الحاذِ الذي لا أهل له ولا ولد " وقد تقدّم جواز نكاح الإماء عند عدم الطَّول للحرة في «النساء» والحمد لله. ولما لم يجعل الله له بين العفّة والنكاح درجةً دلّ على أن ما عداهما محرّم، ولا يدخل فيه مِلْك اليمين لأنه بنصّ آخر مباح، وهو قوله تعالى:أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } [النساء: 3] فجاءت فيه زيادة، ويبقى على التحريم الاستمناء ردّاً على أحمد. وكذلك يخرج عنه نكاح المتعة بنسخه، وقد تقدّم هذا في أول «المؤمنين». قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } فيه ست عشرة مسألة: الأولى: قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ } «الذين» في موضع رفع. وعند الخليل وسيبويه في موضع نصب على إضمار فعل لأن بعده أمراً.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10