الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } * { ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } * { ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ }

فيه خمس مسائل: الأولى: قوله تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ } الإنسان هنا آدم عليه الصلاة والسلام قاله قتادة وغيره، لأنه استُلّ من الطين. ويجيء الضمير في قوله: «ثم جعلناه» عائداً على ابن آدم، وإن كان لم يُذكر لشهرة الأمر فإن المعنى لا يصلح إلا له. نظير ذلكحَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ } [صۤ: 32]. وقيل: المراد بالسلالة ابن آدم قاله ابن عباس وغيره. والسلالة على هذا صفوة الماء، يعني المنيّ. والسلالة فُعالة من السَّل وهو استخراج الشيء من الشيء يقال: سللت الشعر من العجين، والسيف من الغِمد فانسل ومنه قوله:
فُسلِّـي ثيـابـي مـن ثيـابـك تَـنْـسُـلِ   
فالنطفة سُلالة، والولد سَليل وسُلاَلة عنى به الماء يُسَلّ من الظهر سَلاًّ. قال الشاعر:
فجاءت به عَضْبَ الأدِيم غَضنْفَراً   سلالةَ فَرْج كان غيرَ حصِين
وقال آخر:
وما هِنْدُ إلاّ مُهْرَةٌ عربِيّة   سليلةُ أفراسٍ تجلّلها بَغْل
وقوله: «من طين» أي أن الأصل آدم وهو من طين. قلت: أي من طين خالص فأما ولده فهو من طين ومنِيّ، حسبما بيناه في أول سورة الأنعام. وقال الكَلْبِيّ: السلالة الطين إذا عصرته انسل من بين أصابعك فالذي يخرج هو السُّلالة. الثانية: قوله تعالى: { نُطْفَةً } قد مضى القول في النُّطْفة والعَلَقة والمُضْغة وما في ذلك من الأحكام في أول الحج، والحمد لله على ذلك. الثالثة: قوله تعالى: { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } اختلف الناس في الخلق الآخر فقال ابن عباس والشَّعْبِيّ وأبو العالية والضحاك وابن زيد: هو نفخ الروح فيه بعد أن كان جماداً. وعن ابن عباس: خروجه إلى الدنيا. وقال قتادة عن فرقة: نبات شعره. الضحاك: خروج الأسنان ونباتُ الشعر. مجاهد: كمال شبابه وروي عن ابن عمر. والصحيح أنه عام في هذا وفي غيره من النطق والإدراك وحسن المحاولة وتحصيل المعقولات إلى أن يموت. الرابعة: قوله تعالى: { فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } يروى أن عمر بن الخطاب لما سمع صدر الآية إلى قوله: { خَلْقاً آخَرَ } قال فتبارك الله أحسن الخالقين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هكذا أنزلت». وفي مسند الطَّيَالِسِيّ: ونزلت { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } الآية فلما نزلت قلت أنا: تبارك الله أحسن الخالقين فنزلت { فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ }. ويروى أن قائل ذلك معاذ بن جَبَل. وروي أن قائل ذلك عبد الله بن أبي سَرْح، وبهذا السبب ارتد وقال آتي بمثل ما يأتي محمد وفيه نزلوَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ ٱللَّهُ } [الأنعام: 93] على ما تقدم بيانه في «الأنعام». وقوله تعالى «تبارك» تفاعل من البركة. { أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } أتقن الصانعين. يقال لمن صنع شيئاً خَلَقه ومنه قول الشاعر:

السابقالتالي
2