الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّاحِمِينَ } * { فَٱتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ } * { إِنِّي جَزَيْتُهُمُ ٱلْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوۤاْ أَنَّهُمْ هُمُ ٱلْفَآئِزُونَ }

قوله تعالى: { إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا } الآية. قال مجاهد: هم بِلال وخَبّاب وصُهَيب، وفلان وفلان من ضعفاء المسلمين كان أبو جهل وأصحابه يهزؤون بهم. { فَٱتَّخَذْتُمُوهُمْ سُخْرِيّاً } بالضم قراءة نافع وحمزة والكسائي هاهنا وفي «صۤ». وكسر الباقون. قال النحاس: وفرّق أبو عمرو بينهما، فجعل المكسورة من جهة التهزّؤ، والمضمومة من جهة السُّخْرة، ولا يَعرف هذا التفريق الخليلُ ولا سيبويه ولا الكسائيّ ولا الفرّاء. قال الكسائيّ: هما لغتان بمعنًى واحد كما يقال: عُصِيّ وعِصِيّ، ولُجِيّ ولِجِيّ. وحكى الثّعلبِيّ عن الكسائيّ والفرّاء الفرقَ الذي ذكره أبو عمرو، وأن الكسر بمعنى الاستهزاء والسخرية بالقول، والضَّمّ بمعنى التسخير والاستعباد بالفعل. وقال المبرد: إنما يؤخذ التفريق بين المعاني عن العرب، وأما التأويل فلا يكون. والكسر في سخريّ في المعنيين جميعاً لأن الضمة تستثقل في مثل هذا. { حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي } أي حتى اشتغلتم بالاستهزاء بهم عن ذكري. { وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ } استهزاء بهم، وأضاف الإنْساء إلى المؤمنين لأنهم كانوا سبباً لاشتغالهم عن ذكره وتعدّى شؤم استهزائهم بالمؤمنين إلى استيلاء الكفر على قلوبهم. { إِنِّي جَزَيْتُهُمُ ٱلْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوۤاْ } على أذاكم، وصبروا على طاعتي. { أَنَّهُمْ هُمُ ٱلْفَآئِزُونَ } قرأ حمزة والكسائيّ بكسر الهمزة على ابتداء المدح من الله تعالى لهم، وفتح الباقون أي لأنهم هم الفائزون. ويجوز نصبه بوقوع الجزاء عليه، تقديره: إني جزيتهم اليوم الفوز بالجنة. قلت: وينظر إلى معنى هذا قوله تعالى في آخر المُطَفِّفِين:فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ } [المطففين: 34] إلى آخر السورة، على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى. ويستفاد من هذا: التحذيرُ من السّخريّة والاستهزاء بالضعفاء والمساكين والاحتقار لهم، والإزراء عليهم والاشتغال بهم فيما لا يعني، وأن ذلك مُبْعِد من الله عز وجل.