الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَجَاهِدُوا فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ ٱجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَـٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَـاةَ وَٱعْتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ }

قوله تعالى: { وَجَاهِدُوا فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } قيل: عنى به جهاد الكفار. وقيل: هو إشارة إلى امتثال جميع ما أمر الله به، والانتهاء عن كل ما نهى الله عنه أي جاهدوا أنفسكم في طاعة الله وردّها عن الهوى، وجاهدوا الشيطان في ردّ وسوسته، والظَّلمةَ في رد ظلمهم، والكافرين في ردّ كفرهم. قال ابن عطية: وقال مقاتل وهذه الآية منسوخة بقوله تعالى:فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: 16]. وكذا قال هبة الله: إن قوله «حَقَّ جِهاده» وقولَه في الآية الأخرى: «حَقَّ تُقاتِهِ» منسوخ بالتخفيف إلى الاستطاعة في هذه الأوامر. ولا حاجة إلى تقدير النسخ فإن هذا هو المراد من أوّل الحكم لأن «حق جهاده» ما ارتفع عنه الحرج. وقد روى سعيد بن المسيّب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خيرُ دينكم أيْسَرُه " وقال أبو جعفر النحاس. وهذا مما لا يجوز أن يقع فيه نسخ لأنه واجب على الإنسان، كما روى حَيْوَة بن شُريح يرفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " المجاهد من جاهد نفسه لله عز وجل " وكما روى أبو غالب عن أبي أمامة " أن رجلاً سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم: أيّ الجهاد أفضل؟ عند الجمرة الأولى فلم يجبه، ثم سأله عند الجمرة الثانية فلم يجبه، ثم سأله عند جمرة العقبة فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أين السائل؟» فقال أنا ذا، فقال عليه السلام: «كلمةُ عَدْل عند سلطان جائر» ". قوله تعالى: { هُوَ ٱجْتَبَاكُمْ } أي اختاركم للذبّ عن دينه والتزام أمره وهذا تأكيد للأمر بالمجاهدة، أي وجب عليكم أن تجاهدوا لأن الله اختاركم له. قوله تعالى: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } فيه ثلاث مسائل: الأولى: قوله تعالى: { مِنْ حَرَجٍ } أي من ضِيق. وقد تقدّم في «الأنعام». وهذه الآية تدخل في كثير من الأحكام وهي مما خص الله بها هذه الأمة. روى معمر عن قتادة قال: أعطِيتْ هذه الأمة ثلاثاً لم يُعْطَها إلا نبيّ: كان يقال للنبيّ اذهب فلا حرج عليك، وقيل لهذه الأمة: { وما جعل عليكم في الدِّين من حرج }. والنبيّ شهيد على أمته، وقيل لهذه الأمة: { لتكونوا شُهَدَاءَ على الناس }. ويقال للنبيّ: سلْ تُعْطَه، وقيل لهذه الأمة: { ادعوني أستجِبْ لكم }. الثانية: واختلف العلماء في هذا الحَرَج الذي رفعه الله تعالى فقال عكرمة: هو ما أحِلّ من النساء مَثْنَى وثلاثَ ورُباع، وما ملكتْ يَمينك. وقيل: المراد قصر الصلاة، والإفطارُ للمسافِر، وصلاةُ الإيماء لمن لا يقدر على غيره، وحَطُّ الجهاد عن الأعمى والأعرج والمريض والعَدِيم الذي لا يجد ما ينفق في غَزْوه، والغَرِيم ومن له والدان، وحَطّ الإصْر الذي كان على بني إسرائيل.

السابقالتالي
2