الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوۤاْ أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ ٱللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } * { لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ }

أفرد ذكر المهاجرين الذين ماتوا وقُتلوا تفضيلاً لهم وتشريفاً على سائر الموتى. وسبب نزول هذه الآية أنه لما مات بالمدينة عثمان بن مَظْعُون وأبو سلمة بن عبد الأسد قال بعض الناس: من قُتل في سبيل الله أفضلُ ممن مات حَتْف أنفه فنزلت هذه الآية مُسَوِّيةً بينهم، وأن الله يرزق جميعهم رزقاً حسناً. وظاهر الشريعة يدل على أن المقتول أفضل. وقد قال بعض أهل العلم: إن المقتول في سبيل الله والميتَ في سبيل الله شهيد ولكن للمقتول مَزِيّة ما أصابه في ذات الله. وقال بعضهم: هما سواء واحتج بالآية، وبقوله تعالى:وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ } [النساء: 100]، وبحديث أمّ حَرام فإنها صُرعت عن دابتها فماتت ولم تُقتل فقال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم: " أنت من الأوّلين " ، وبقول النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عَتيك: " من خرج من بيته مهاجراً في سبيل الله فخرّ عن دابته فمات أو لدغته حية فمات أو مات حَتْفَ أنفه فقد وقع أجره على الله ومن مات قَعْصاً فقد استوجب المآب " وذكر ابن المبارك عن فضالة بن عبيد في حديث ذكر فيه رجلين أحدهما أصيب في غَزاة بِمَنْجَنيق فمات والآخر مات هناك فجلس فضالة عند الميت فقيل له: تركت الشهيد ولم تجلس عنده؟ فقال: ما أبالي من أيّ حفرتيهما بُعثت ثم تلا قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوۤاْ أَوْ مَاتُواْ } الآية كلها. وقال سليمان بن عامر: كان فضالة برُودس أميراً على الأرباع فخُرِج بجنازتي رجلين أحدهما قتيل والآخر متوَفّى فرأى ميل الناس مع جنازة القتيل إلى حفرته فقال: أراكم أيها الناس تميلون مع القتيل! فوالذي نفسي بيده ما أبالي من أيّ حفرتيهما بُعثت، اِقرءوا قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوۤاْ أَوْ مَاتُواْ }. كذا ذكره الثعلبي في تفسيره، وهو معنى ما ذكره ابن المبارك. واحتج من قال: إن للمقتول زيادةَ فضل بما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنه سئل: أيّ الجهاد أفضل؟ قال: «من أُهْرِيق دمُه وعُقر جوادُه» " وإذا كان من أهريق دمه وعُقر جواده أفضلَ الشهداء عُلم أنه من لم يكن بتلك الصفة مفضول. قرأ ابن عامر وأهل الشام «قُتّلوا» بالتشديد على التكثير. الباقون بالتخفيف. { لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ } أي الجِنان. قراءة أهل المدينة «مَدخلا» بفتح الميم أي دخولاً. وضمها الباقون، وقد مضى في «سبحان». { وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ } قال ابن عباس: عليم بنياتهم، حليم عن عقابهم.