الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا ٱسمُ ٱللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }

فيه ثمان مسائل: الأولى: قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم } هذا أحد ما ظلِموا به وإنما أخرجوا لقولهم: ربنا الله وحده. فقوله: { إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ } استثناء منقطع أي لكن لقولهم ربنا الله قاله سيبويه. وقال الفراء يجوز أن تكون في موضع خفض، يقدرها مردودة على الباء وهو قول أبي إسحاق الزجاج، والمعنى عنده: الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا بأن يقولوا ربنا الله أي أخرجوا بتوحيدهم، أخرجهم أهل الأوثان. و { ٱلَّذِينَ أُخْرِجُواْ } في موضع خفض بدلاً من قوله: { لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ }. الثانية: قال ابن العربيّ: قال علماؤنا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بَيْعة العَقَبة لم يؤذن له في الحرب ولم تحلّ له الدماء إنما يؤمر بالدعاء إلى الله والصبر على الأذى والصفح عن الجاهل مدّة عشرة أعوام لإقامة حجة الله تعالى عليهم، ووفاء بوعده الذي امتن به بفضله في قوله:وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } [الإسراء: 15]. فاستمرّ الناس في الطغيان وما استدلوا بواضح البرهان، وكانت قريش قد اضطهدت مَن اتبعه من قومه من المهاجرين حتى فتنوهم عن دينهم ونفَوْهم عن بلادهم فمنهم من فرّ إلى أرض الحبشة، ومنهم من خرج إلى المدينة، ومنهم مَن صَبَر على الأذى. فلما عَتَتْ قريش على الله تعالى وردّوا أمره وكذبوا نبيه عليه السلام، وعذبوا من آمن به ووحّده وعبده، وصدّق نبيه عليه السلام واعتصم بدينه، أذِن الله لرسوله في القتال والامتناع والانتصار ممن ظلمهم، وأنزل { أذِن لِلذِين يقاتلون بِأنهم ظُلِموا ـ إلى قوله ـ الأُمُورِ }. الثالثة: في هذه الآية دليل على أن نسبة الفعل الموجود من المُلجأ المُكره إلى الذي ألجأه وأكرهه لأن الله تعالى نسب الإخراج إلى الكفار، لأن الكلام في معنى تقدير الذنب وإلزامه. وهذه الآية مثلُ قوله تعالى:إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [براءة: 40] والكلام فيهما واحد وقد تقدّم في «براءة» والحمد لله. الرابعة: قوله تعالى: { وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } أي لولا ما شرعه الله تعالى للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء، لاستولى أهل الشرك وعطّلوا ما بنته أرباب الديانات من مواضع العبادات، ولكنه دفع بأن أوجب القتال ليتفرّغ أهل الدين للعبادة. فالجهاد أمر متقدّم في الأمم، وبه صَلَحت الشرائع واجتمعت المتعبَّدات فكأنه قال: أذن في القتال، فليقاتل المؤمنون. ثم قوّى هذا الأمر في القتال بقوله: { وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ } الآية أي لولا القتال والجهاد لتُغُلِّب على الحق في كل أمة. فمن استبشع من النصارى والصابئين الجهاد فهو مناقض لمذهبه إذ لولا القتال لما بقي الدِّين الذي يذبّ عنه. وأيضاً هذه المواضع التي اتّخذِت قبل تحريفهم وتبديلهم وقبل نسخ تلك الملل بالإسلام إنما ذكرت لهذا المعنى أي لولا هذا الدفع لهدم في زمن موسى الكنائس، وفي زمن عيسى الصوامع والبِيع، وفي زمن محمد عليه السلام المساجد.

السابقالتالي
2 3