الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ ذٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ ٱللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ ٱلأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَانِ وَٱجْتَنِبُواْ قَوْلَ ٱلزُّورِ } * { حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ ٱلرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ }

فيه ثماني مسائل: الأولى: قوله تعالى: { ذٰلِكَ } يحتمل أن يكون في موضع رفع بتقدير: فرضُكم ذلك، أو الواجب ذلك. ويحتمل أن يكون في موضع نصب بتقدير: امتثلوا ذلك ونحو هذه الإشارة البليغة قول زهير:
هذا وليس كمن يَعْيَا بخُطّته   وسْطَ النَّدِيّ إذا ما قائل نطقا
والحرمات المقصودة هنا هي أفعال الحج المشار إليها في قوله: { ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ } ، ويدخل في ذلك تعظيم المواضع قاله ابن زيد وغيره. ويجمع ذلك أن تقول: الحرمات امتثال الأمر في فرائضه وسننه. وقوله: { فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ } أي التعظيم خير له عند ربه من التهاون بشيء منها. وقيل: ذلك التعظيم خير من خيراته يُنتفع به، وليست للتفضيل وإنما هي عِدَة بخير. الثانية: قوله تعالى: { وَأُحِلَّتْ لَكُمُ ٱلأَنْعَامُ } أن تأكلوها وهي الإبل والبقر والغنم. { إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } أي في الكتاب من المحرمات وهي المَيْتة والمَوْقُوذة وأخواتها. ولهذا اتصال بأمر الحج فإن في الحج الذبح، فبيّن ما يحلّ ذبحه وأكل لحمه. وقيل: { إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } غيرَ مُحِلِّي الصيد وأنتم حرم. الثالثة: قوله تعالى: { فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَانِ } الرجس: الشيء القذِر. والوَثَن: التمثال من خشب أو حديد أو ذهب أو فضة ونحوها، وكانت العرب تنصِبها وتعبدها. والنصارى تنصِب الصليب وتعبده وتعظمه فهو كالتمثال أيضاً. وقال عَدِيّ بن حاتم: أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال: " ألْقِ هذا الوثن عنك " أي الصليب وأصله من وَثَن الشيء أي أقام في مقامه. وسمي الصنم وَثَناً لأنه ينصب ويركز في مكان فلا يبرح عنه. يريد اجتنبوا عبادة الأوثان روي عن ابن عباس وابن جُريج. وسماها رجساً لأنها سبب الرجز وهو العذاب. وقيل: وصفها بالرجس، والرجس النجس فهي نجسة حكماً. وليست النجاسة وصفاً ذاتياً للأعيان وإنما هي وصف شرعيّ من أحكام الإيمان، فلا تُزال إلا بالإيمان كما لا تجوز الطهارة إلا بالماء. الرابعة: { مِن } في قوله: { مِنَ ٱلأَوْثَانِ } قيل: إنها لبيان الجنس، فيقع نهيه عن رجس الأوثان فقط، ويبقى سائر الأرجاس نهيها في غير هذا الموضع. ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية فكأنهم نهاهم عن الرجس عاماً ثم عيّن لهم مبدأه الذي منه يلحقهم إذ عبادة الوثن جامعة لكل فساد ورجس. ومن قال إن «مِن» للتبعيض، قلب معنى الآية وأفسده. الخامسة: قوله تعالى: { وَٱجْتَنِبُواْ قَوْلَ ٱلزُّورِ } والزور: الباطل والكذب. وسمي زوراً لأنه أميل عن الحق ومنه { تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ } ، ومدينةٌ زوراء أي مائلة. وكل ما عدا الحق فهو كذب وباطل وزُور. وفي الخبر أنه عليه السلام قام خطيباً فقال: " عَدَلت شهادةُ الزور الشّركَ بالله "