الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ٱلَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً ٱلْعَاكِفُ فِيهِ وَٱلْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }

فيه سبع مسائل: الأولى: قوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ } أعاد الكلام إلى مشركي العرب حين صَدُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام عامَ الحُدَيْبِيَة، وذلك أنه لم يُعلم لهم صَدّ قبل ذلك الجمع إلا أن يريد صدّهم لأفرادٍ من الناس، فقد وقع ذلك في صدر من المبعث. والصد: المنع أي وهم يصدّون. وبهذا حسن عطف المستقبل على الماضي. وقيل: الواو زائدة «ويصدون» خبر «إنّ». وهذا مفسد للمعنى المقصود، وإنما الخبر محذوف مقدّر عند قوله «والْبَادِي» تقديره: خسروا إذ هلكوا. وجاء «ويصدون» مستقبلاً إذ هو فعل يُديمُونه كما جاء قوله تعالى:ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ٱللَّهِ } [الرعد: 28] فكأنه قال: إن الذين كفروا من شأنهم الصدّ. ولو قال إن الذين كفروا وصدوا لجاز. قال النحاس: وفي كتابي عن أبي إسحاق قال وجائز أن يكون ـ وهو الوجه ـ الخبر «نُذِقْه من عذاب أليم». قال أبو جعفر: وهذا غلط، ولست أعرف ما الوجه فيه لأنه جاء بخبر «إنّ» جزماً، وأيضاً فإنه جواب الشرط، ولو كان خبر «إن» لبقي الشرط بلا جواب، ولا سيما والفعل الذي في الشرط مستقبل فلا بُدّ له من جواب. الثانية: قوله تعالى: { وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } قيل: إنه المسجد نفسه، وهو ظاهر القرآن لأنه لم يذكر غيره. وقيل: الحرم كله لأن المشركين صدّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابَه عنه عامَ الحديبية، فنزل خارجاً عنه قال الله تعالى:وَصَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } [الفتح: 25] وقال:سُبْحَانَ الذي أسْرَى بعبده لَيْلاً من المسجد الحرام } [الإسراء:1]. وهذا صحيح، لكنه قصد هنا بالذكر المهمّ المقصود من ذلك. الثالثة: قوله تعالى: { ٱلَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ } أي للصلاة والطواف والعبادة وهو كقوله تعالى:إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } [آل عمران: 96]. { سَوَآءً ٱلْعَاكِفُ فِيهِ وَٱلْبَادِ } العاكف: المقيم الملازم. والبادِي: أهل البادية ومن يَقْدَم عليهم. يقول: سواء في تعظيم حرمته وقضاء النّسك فيه الحاضرُ والذي يأتيه من البلاد فليس أهل مكة أحقّ من النازح إليه. وقيل: إن المساواة إنما هي في دُوره ومنازله، ليس المقيم فيها أولى من الطارىء عليها. وهذا على أن المسجد الحرام الحَرَم كله وهذا قول مجاهد ومالك، رواه عنه ابن القاسم. ورُوي عن عمر وابن عباس وجماعة أن القادم له النزول حيث وُجِد، وعلى رب المنزل أن يؤوِيَه شاء أو أبى. وقال ذلك سفيان الثورِيّ وغيره. وكذلك كان الأمر في الصدر الأوّل، كانت دورهم بغير أبواب حتى كثرت السرقة فاتخذ رجل باباً فأنكر عليه عمر وقال: أتغلق باباً في وجه حاج بيت الله؟ فقال: إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة فتركه فاتخذ الناس الأبواب. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضاً أنه كان يأمر في الموسم بقلع أبواب دور مكة، حتى يدخلها الذي يقدم فينزل حيث شاء، وكانت الفساطيط تضرب في الدور.

السابقالتالي
2 3 4