الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٌ }

قوله تعالى: { يَوْمَ تَرَوْنَهَا } الهاء في { تَرَوْنَهَا } عائدة عند الجمهور على الزلزلة ويقوّي هذا قولُه عز وجل: { تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا }. والرضاع والحمل إنما هو في الدنيا. وقالت فرقة: الزلزلة في يوم القيامة واحتجوا بحديث عِمران بن حُصين الذي ذكرناه، وفيه: «أتدرون أيّ يوم ذلك...» الحديث. وهو الذي يقتضيه سياق مُسْلم في حديث أبي سعيد الخُدْريّ. قوله: { تَذْهَلُ } أي تشتغل قاله قُطْرُب. وأنشد:
ضَرْباً يُزيل الهام عن مَقِيلهِ   ويُذهِل الخَليلَ عن خَليلهِ
وقيل: تنسى. وقيل تلهو. وقيل تسلو والمعنى متقارب. { عَمَّآ أَرْضَعَتْ } قال المبرّد: «ما» بمعنى المصدر أي تذهل عن الإرضاع. قال: وهذا يدل على أن هذه الزلزلة في الدنيا إذ ليس بعد البعث حَمْل وإرضاع. إلا أن يقال: من ماتت حاملاً تُبعث حاملاً فتضع حملها للهَوْل. ومن ماتت مُرضعة بُعثت كذلك. ويقال: هذا كما قال الله عز وجل:يَوْماً يَجْعَلُ ٱلْوِلْدَانَ شِيباً } [المزمل: 17]. وقيل: تكون مع النفخة الأولى. وقيل: تكون مع قيام الساعة، حتى يتحرّك الناس من قبورهم في النفخة الثانية. ويحتمل أن تكون الزلزلة في الآية عبارةً عن أهوال يوم القيامة كما قال تعالى:مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ } [البقرة: 214] وكما قال عليه السلام: " اللهم اهزمهم وزلزلهم " وفائدة ذكر هَوْل ذلك اليوم التحريضُ على التأهب له والاستعداد بالعمل الصالح. وتسمية الزلزلة بـ«ـشيء» إما لأنها حاصلة متيقَّن وقوعها، فيستسهل لذلك أن تسمَّى شيئاً وهي معدومة إذ اليقين يشبه الموجودات. وإما على المآل أي هي إذا وقعت شيء عظيم. وكأنه لم يطلق الاسم الآن، بل المعنى أنها إذا كانت فهي إذاً شيء عظيم، ولذلك تذهل المراضع وتسكر الناس كما قال: { وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَارَىٰ } أي من هولها ومما يدركهم من الخوف والفزع. { وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ } من الخمر. وقال أهل المعاني: وترى الناس كأنهم سكارى. يدلّ عليه قراءة أبي زُرْعة هَرِم بن عمرو بن جرير بن عبد الله «وتُرَى الناس» بضم التاء أي تظن ويخيّل إليك. وقرأ حمزة والكسائِيّ «سَكْرَى» بغير ألف. الباقون «سُكارى» وهما لغتان لجمع سكران مثلُ كَسْلى وكُسَالى. والزلزلة: التحريك العنيف. والذهول: الغفلة عن الشيء بطروء ما يشغَل عنه من همّ أو وجع أو غيره. قال ابن زيد: المعنى تترك ولدها للكرب الذي نزل بها.