الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَعَنَتِ ٱلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ ٱلْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً } * { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً }

قوله تعالى: { وَعَنَتِ ٱلْوُجُوهُ } أي ذلّت وخضعت قاله ابن الأعرابي وغيره. ومنه قيل للأسير عانٍ. قال أمية بن أبي الصَّلْت:
مليكٌ على عرش السّماءِ مُهَيْمِنٌ   لعزّته تَعنُو الوجوهُ وتَسجدُ
وقال أيضاً:
وَعَنَا له وَجْهِي وخَلْقِي كلُّه   في الساجدين لوجهه مَشْكُورَا
قال الجوهري: عنا يعنو خضع وذلّ وأعناه غيره ومنه قوله تعالى: { وَعَنَتِ ٱلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ ٱلْقَيُّومِ }. ويقال أيضاً: عَنا فيهم فلان أسيراً أي أقام فيهم على إساره واحتبس. وَعَنَّاه غيرُه تعنيةً حبسه. والعاني الأسير. وقوم عُناة ونسوة عَوَانٍ. وَعَنَتْ به أمورٌ نزلت. وقال ابن عباس: «عَنَت» ذلّت. وقال مجاهد: خشعت. الماوردي: والفرق بين الذل والخشوع ـ وإن تقارب معناهما ـ أن الذل أن يكون ذليل النفس، والخشوع أن يتذلل لذي طاعة. وقال الكلبي: «عنت» أي عملت. عطية العوفي: استسلمت. وقال طَلْق بن حبيب: إنه وضع الجبهة والأنف على الأرض في السجود. النحاس: { وَعَنَتِ ٱلْوُجُوهُ } في معناه قولان: أحدهما: أن هذا في الآخرة. وروى عكرمة عن ابن عباس «وَعَنَتِ الْوجُوهُ لِلْحَيّ الْقَيُّومِ» قال: الركوع والسجود ومعنى «عنت» في اللغة القهر والغلبة، ومنه فتحت البلاد عَنوة أي غلبة قال الشاعر:
فما أخذوها عَنْوةً عن مودّة   ولكنْ بضرب المَشْرَفيّ اسْتقَالَها
وقيل: هو من العناء بمعنى التعب وكنى عن الناس بالوجوه لأن آثار الذل إنما تتبين في الوجه. { لِلْحَيِّ ٱلْقَيُّومِ } وفي القيوم ثلاثة تأويلات أحدها: أنه القائم بتدبير الخلق. الثاني: أنه القائم على كل نفس بما كسبت. الثالث: أنه الدائم الذي لا يزول ولا يبيد. وقد مضى في «البقرة» هذا. { وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً } أي خسر من حمل شركاً. قوله تعالى: { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } لأن العمل لا يقبل من غير إيمان. و«من» في قوله: { مِنَ ٱلصَّالِحَاتِ } للتبعيض أي شيئاً من الصالحات. وقيل: للجنس. { فَلاَ يَخَافُ } قرأ ابن كثير ومجاهد وابن محيصن «يَخَف» بالجزم جواباً لقوله: { وَمَن يَعْمَلْ }. الباقون «يَخَافُ» رفعاً على الخبر أي فهو لا يَخَافُ أو فإنه لا يخاف. { ظُلْماً } أي نقصاً لثواب طاعته، ولا زيادة عليه في سيئاته. { وَلاَ هَضْماً } بالانتقاص من حقه. والهضم النقص والكسر يقال: هضمتُ ذلك من حقّي أي حططتُه وتركته. وهذا يهضم الطعام أي ينقص ثقله. وامرأة هَضِيمُ الكشح ضامرة البطن. الماوردي: والفرق بين الظلم والهضم أن الظلم المنع من الحق كله، والهضم المنع من بعضه، والهضم ظلم وإن افترقا من وجه قال المتوكل الليثي:
إنّ الأذلَة واللئامَ لَمعشرٌ   مَوْلاَهُم المتهضّم المظلومُ
قال الجوهري: ورجل هَضيمٌ ومُهتضَم أي مظلوم. وتَهضَّمه أي ظلمه واهتضمه إذا ظلمه وكَسَر عليه حقه.