الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ ٱلْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }

قوله تعالى: { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ } يعني اليهود. { وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } قيل: المعنى وأحرص فحذف { وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } لمعرفتهم بذنوبهم وألاّ خير لهم عند الله ومشركو العرب لا يعرفون إلا هذه الحياة ولا علم لهم من الآخرة ألا ترى قول شاعرهم:
تمتّع من الدنيا فإنك فانٍ   من النَّشَوات والنساء الحسان
والضمير في «أَحَدُهُمْ» يعود في هذا القول على اليهود. وقيل: إن الكلام تم في «حياة» ثم ٱستؤنف الإخبار عن طائفة من المشركين. قيل: هم المجوس وذلك بيِّن في أدعياتهم للعاطس بلغاتهم بما معناه «عِشْ ألفَ سنة» وخُصّ الألف بالذكر لأنها نهاية العقد في الحساب. وذهب الحسن إلى أن { ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } مشركو العرب، خُصُّوا بذلك لأنهم لا يؤمنون بالبعث فهم يتمّنون طول العمر. وأصل سنة سَنْهَة. وقيل: سَنْوَة. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير والمعنى ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حياة. قوله تعالى: { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } أصل «يَوَدُّ» يَوْدَد، أُدغمت لئلا يجمع بين حرفين من جنس واحد متحركين وقُلبت حركة الدال على الواو ليدل ذلك على أنه يفعل. وحكى الكسائي: ودَدْتُ فيجوز على هذا يَوِدّ بكسر الواو. ومعنى يَوَدّ: يتمنّى. قوله تعالى: { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ ٱلْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ } اختلف النحاة في هو، فقيل: هو ضمير الأحد المتقدّم، التقدير ما أحدهم بمزحزحه، وخبر الابتداء في المجرور. «أن يُعَمَّر» فاعل بمزحزح. وقالت فرقة: هو ضمير التعمير، والتقدير وما التعمير بمزحزحه، والخبر في المجرور، «أن يعمر» بدل من التعمير على هذا القول. وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: «هو» عِماد. قلت: وفيه بُعْدٌ، فإن حقّ العِماد أن يكون بين شيئين متلازمين مثل قوله:إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ } [الأنفال: 32]، وقوله:وَلَـٰكِن كَانُواْ هُمُ ٱلظَّالِمِينَ } [الزخرف: 76] ونحو ذلك. وقيل: «ما» عاملة حجازية، و «هو» ٱسمها، والخبر في «بِمُزَحْزِحِهِ». وقالت طائفة: «هو» ضمير الأمر والشأن. ٱبن عطية: وفيه بُعْدٌ، فإن المحفوظ عن النحاة أن يفسَّر بجملة سالمة من حرف جَرّ. وقوله: { بِمُزَحْزِحِهِ } الزحزحة: الإبعاد والتّنحية يقال: زحزحته أي باعدته فتزحزح أي تنحى وتباعد يكون لازماً ومتعدياً قال الشاعر في المتعدّي:
يا قابضَ الرُّوحِ من نفس إذا ٱحتضرتْ   وغافرَ الذنب زَحْزِحْنِي عن النارِ
وأنشد ذو الرُمّة:
يا قابض الروح عن جسم عصى زمناً   وغافر الذنب زحزحني عن النار
وقال آخر في اللازم:
خليليّ ما بالُ الدُّجَى لا يتزحزح   وما بالُ ضَوْءِ الصّبح لا يتوضّحُ
وروى النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " من صام يوماً في سبيل الله زحزح الله وجهه عن النار سبعين خريفاً ". قوله تعالى: { بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي بما يعمل هؤلاء الذين يَوَدّ أحدهم أن يُعمَّر ألف سنة.

السابقالتالي
2