الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ }

فيه عشر مسائل: الأولى: قوله تعالى: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } تقدّم الكلام في بيان هذه الألفاظ. وٱختلف في الميثاق هنا فقال مَكي: هو الميثاق الذي أُخذ عليهم حين أخرجوا من صلب آدم كالذرّ. وقيل: هو ميثاق أخذ عليهم وهم عقلاء في حياتهم على ألسنة أنبيائهم وهو قوله: { لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ } وعبادةُ الله إثبات توحيدِه، وتصديقُ رُسُلِه، والعملُ بما أنزل في كتبه. الثانية: قوله تعالى: { لاَ تَعْبُدُونَ } قال سيبويه: «لاتعبدون» متعلّق بقَسَم والمعنى وإذ استخلفناهم والله لا تعبدون وأجازه المبرّد والكسائي والفرّاء. وقرأ أبيّ وٱبن مسعود «لا تعبدوا» على النَهي، ولهذا وصل الكلام بالأمر فقال: «وقوموا، وقولوا، وأقِيموا، وآتوا». وقيل: هو في موضع الحال أي أخذنا ميثاقهم موحّدين، أو غير معاندين قاله قُطْرب والمبرّد أيضاً. وهذا إنما يَتجه على قراءة ٱبن كثير وحمزة والكسائي «يعبدون» بالياء من أسفل. وقال الفرّاء والزجاج وجماعة: المعنى أخذنا ميثاقهم بألا يعبدوا إلا الله، وبأن يحسنوا للوالدين، وبألا يَسفكوا الدماء ثم حذفت أنْ والباء فٱرتفع الفعل لزوالهما، كقوله تعالى: { أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَأْمُرُونِّيۤ }. قال المبرّد: هذا خطأ لأن كل ما اضمر في العربية فهو يعمل عمله مظهراً تقول: وبلدٍ قطعت أي رُبّ بلد. قلت: ليس هذا بخطأ، بل هما وجهان صحيحان، وعليهما أنشد سيبويه:
ألاَ أيُّها ذا الزّاجرِي أحْضرَ الْوَغَى   وأنْ أشهدَ اللّذاتِ هل أنت مُخْلِدِي
بالنصب والرفع فالنصب على إضمار أن، والرفع على حذفها. الثالثة: قوله تعالى: { وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } أي وأمرناهم بالوالدين إحسانا. وقَرَن الله عز وجل في هذه الآية حق الوالدين بالتوحيد، لأن النَّشأة الأولى من عند الله، والنَّشء الثاني ـ وهو التربية ـ من جهة الوالدين ولهذا قَرَن تعالى الشكر لهما بشكره فقال:أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ } [لقمان: 14]. والإحسان إلى الوالدين: معاشرتهما بالمعروف، والتواضعُ لهما، وٱمتثال أمرهما، والدعاءُ بالمغفرة بعد مماتهما، وصلةُ أهلِ ودّهما على ما يأتي بيانه مفصَّلاً في «الإسراء» إن شاء الله تعالى. الرابعة: قوله تعالى: { وَذِي ٱلْقُرْبَىٰ } عطف ذي القربى على الوالدين. والقُرْبَى: بمعنى القرابة، وهو مصدر كالرُّجْعَى والعُقْبَى أي وأمرناهم بالإحسان إلى القرابات بصلة أرحامهم. وسيأتي بيان هذا مفصَّلاً في سورة «القتال» إن شاء الله تعالى. الخامسة: قوله تعالى: { وَالْيَتَامَىٰ } اليتامى عطف أيضاً، وهو جمع يتيم مثل نَدَامَى جمع نَدِيم. واليُتْم في بني آدم بفقد الأب، وفي البهائم بفقد الأم. وحكى الماورديّ أن اليتيم يقال في بني آدم في فقد الأم والأوّل المعروف. وأصله الانفراد يقال: صبيٌّ يتيم، أي منفرد من أبيه. وبيت يتيم: أي ليس قبله ولا بعده شيء من الشِّعْر. ودُرّة يتيمة: ليس لها نظير. وقيل: أصله الإبطاء فسُمّيَ به اليتيم لأن البِرّ يبطىء عنه.

السابقالتالي
2 3 4