الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ }

فيها عشر مسائل: الأولى: قوله تعالى: { خَتَمَ ٱللَّهُ } بيَّن سبحانه في هذه الآية المانع لهم من الإيمان بقوله: «ختم الله». والختم مصدر ختمت الشيء ختماً فهو مختوم ومختّم شدّد للمبالغة، ومعناه التغطية على الشيء والاستيثاق منه حتى لا يدخله شيء ومنه: ختم الكتاب والباب وما يشبه ذلك، حتى لا يوصل إلى ما فيه، ولا يوضع فيه غير ما فيه. وقال أهل المعاني: وصف الله تعالى قلوب الكفار بعشرة أوصاف: بالختم والطبع والضيق والمرض والرَّيْن والموت والقساوة والانصراف والحَمِيّة والإنكار. فقال في الإنكار:قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } [النحل:22] وقال في الحَمِيّة:إِذْ جَعَلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلْحَمِيَّةَ } [الفتح:26] وقال في الانصراف:ثُمَّ ٱنصَرَفُواْ صَرَفَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون } [التوبة:127] وقال في القساوة:فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ ٱللَّهِ } [الزمر:22] وقال:ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ } [البقرة:74] وقال في الموت:أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } [الأنعام:122]. وقال:إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَٱلْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ } [الأنعام:36]. وقال في الرَّيْن:كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [المطففين:14]. وقال في المرض:فِي قُلُوبِهِم مَّرَض } [البقرة:10]. وقال في الضيق:وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً } [الأنعام:125] وقال في الطبع:فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } [المنافقون:3] وقال:بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } [النساء:155]. وقال في الختم: { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ }. وسيأتي بيانها كلها في مواضعها إن شاء الله تعالى. الثانية: الختم يكون محسوساً كما بينا، ومعنىً كما في هذه الآية. فالختم على القلوب: عدم الوعي عن الحق ـ سبحانه ـ مفهوم مخاطباته والفكر في آياته. وعلى السمع. عدم فهمهم للقرآن إذا تلي عليهم أو دعُوا إلى وحدانيته. وعلى الأبصار: عدم هدايتها للنظر في مخلوقاته وعجائب مصنوعاته هذا معنى قول ٱبن عباس وٱبن مسعود وقتادة وغيرهم. الثالثة: في هذه الآية أدَلّ دليل وأوضح سبيل على أن الله سبحانه خالق الهدى والضلال، والكفر والإيمان فاعتبروا أيها السامعون، وتعجبوا أيها المفكرون من عقول القدرية القائلين بخلق إيمانهم وهداهم فإن الختم هو الطبع فمن أين لهم الإيمان ولو جَهَدوا وقد طبع على قلوبهم وعلى سمعهم وجعل على أبصارهم غشاوة، فمتى يهتدون، أو من يهديهم من بعد الله إذا أضلهم وأصمهم وأعمى أبصارهموَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [الرعد:33] وكان فعل الله ذلك عدلا فيمن أضله وخذله، إذ لم يمنعه حقاً وجب له فتزول صفة العدل، وإنما منعهم ما كان له أن يتفضل به عليهم لا ما وجب لهم. فإن قالوا: إن معنى الختم والطبع والغشاوة التسميةُ والحكم والإخبارُ بأنهم لا يؤمنون، لا الفعل. قلنا: هذا فاسد، لأن حقيقة الختم والطبع إنما هو فعل ما يصير به القلب مطبوعاً مختوماً لا يجوز أن تكون حقيقته التسمية والحكم ألا ترى أنه إذا قيل: فلان طبع الكتاب وختمه، كان حقيقة أنه فعل ما صار به الكتاب مطبوعاً ومختوماً، لا التسمية والحكم.

السابقالتالي
2 3 4 5