الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَارَىٰ وَٱلصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }

فيه ثماني مسائل: الأولى: قوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } أي صدّقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقال سُفيان: المراد المنافقون. كأنه قال: الذين آمنوا في ظاهر أمرهم فلذلك قَرَنهم باليهود والنصارى والصابئين، ثم بيّن حكم من آمن بالله واليوم الآخر من جميعهم. الثانية: قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ هَادُواْ } معناه صاروا يهوداً نُسِبوا إلى يهوذا وهو أكبر ولد يعقوب عليه السلام فقلبت العرب الذال دالاً لأن الأعجمية إذا عُرِّبت غُيّرت عن لفظها. وقيل: سُمُّوا بذلك لتوبتهم عن عبادة العجل. هاد: تاب. والهائد: التائب قال الشاعر:
إني ٱمرؤ من حُبّه هائِدُ   
أي تائب. وفي التنزيل:إِنَّا هُدْنَـآ إِلَيْكَ } [الأعراف: 156] أي تُبْنَا. وهاد القوم يهودون هَوْداً وهيادة إذا تابوا. وقال ٱبن عرفة: { هُدْنَـآ إِلَيْكَ } أي سكنّا إلى أمرك. والهوادة السكون والموادعة. قال: ومنه قوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ }. وقرأ أبو السَّمّال: «هادَوْا» بفتح الدال. الثالثة: قوله تعالى: { وَٱلنَّصَارَىٰ } جمع، واحده نَصْرَانيّ. وقيل: نَصْرَان بإسقاط الياء وهذا قول سيبويه. والأنثى نصرانة كندمان وندمانة. وهو نكرة يعرّف بالألف واللام قال الشاعر:
صدّتْ كما صدّ عما لا يَحِلّ له   ساقِي نَصَارَى قُبيل الفِصْحِ صُوّامِ
فوصفه بالنكرة. وقال الخليل: واحد النصارى نَصْريّ كَمْهرِيّ ومهَارَى. وأنشد سيبويه شاهداً على قوله:
تراه إذا دار العِشَا مُتَحَنِّفاً   ويُضْحى لديه وهو نَصْرانُ شامِس
وأنشد:
فكلتاهما خَرّتْ وأسجد رأسُها   كما أسجدتْ نَصرانةٌ لم تَحَنَّفِ
يقال: أسجد إذا مال. ولكن لا يستعمل نَصران ونَصرانة إلا بياءي النسب لأنهم قالوا: رجل نصرانيّ وٱمرأة نصرانية. ونَصْره: جعله نَصرانيًّا. وفي الحديث: " فأبواه يُهَوّدانِهِ أو يُنْصِّرَانِهِ " وقال عليه السلام: " لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يَهُوديّ ولا نَصرانيّ ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار " وقد جاءت جموع على غير ما يستعمل واحدها وقياسه النصرانيون. ثم قيل: سُمُّوا بذلك لقرية تسمّى «ناصِرة» كان ينزلها عيسى عليه السلام فنُسِب إليها فقيل: عيسى الناصريّ فلما نُسب أصحابه إليه قيل النصارى قاله ٱبن عباس وقتادة. وقال الجوهري: ونصران قرية بالشام يُنسب إليها النصارى، ويقال ناصرة. وقيل: سُمُّوا بذلك لنُصرة بعضهم بعضاً قال الشاعر:
لما رأيتُ نَبَطاً أنصاراً   شَمَّرت عن ركبتيَ الإزارا
كنتُ لهم من النصارى جارا   
وقيل: سُمُّوا بذلك لقوله:مَنْ أَنصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ ٱللَّهِ } [آل عمران: 52 والصف: 14]. الرابعة: قوله تعالى: { وَٱلصَّابِئِينَ } جمع صابىء، وقيل: صابٍ ولذلك ٱختلفوا في همزه، وهمزه الجمهور إلا نافعاً. فمن همزه جعله من صَبأتِ النّجوم إذا طلعت، وَصَبَأتْ ثَنِيّةُ الغلامِ إذا خرجت. ومن لم يهمز جعله من صبا يصبو إذا مال.

السابقالتالي
2