الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذِ ٱسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ فَٱنفَجَرَتْ مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ ٱللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ }

فيه ثماني مسائل: الأولى: قوله تعالى: { وَإِذِ ٱسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ } كُسرت الذال لالتقاء الساكنين. والسين سين السؤال مثل: ٱستعلم وٱستخبر وٱستنصر، ونحو ذلك أي طلب وسأل السَّقْيَ لقومه. والعرب تقول: سقيته وأسقيته، لغتان بمعنًى قال:
سقى قومي بني مَجْدٍ وأسْقَى   نُمَيْراً والقبائلَ من هِلال
وقيل: سقيتُه من سقي الشَّفَة، وأسقيته دَلَلْته على الماء. الثانية: الاستسقاء إنما يكون عند عدم الماء وحبس القطر، وإذا كان كذلك فالحكم حينئذ إظهار العبودية والفقر والمسكنة والذِّلة مع التوبة النَّصوح. وقد " ٱستسقى نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم: «فخرج إلى المصلَّى متواضعاً متذلّلاً متخشعاً مترسِّلاً متضرّعاً» " وحسبك به! فكيف بنا ولا توبة معنا إلا العناد ومخالفة رب العباد فأنَّى نُسْقَى! لكن قد قال صلى الله عليه وسلم في حديث ٱبن عمر: " ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنِعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يُمْطَرُوا " الحديث. وسيأتي بكماله إن شاء الله. الثالثة: سُنّة الاستسقاء الخروج إلى المصلَّى ـ على الصفة التي ذكرنا ـ والخطبة والصلاة وبهذا قال جمهور العلماء. وذهب أبو حنيفة إلى أنه ليس من سُنّته صلاة ولا خروج، وإنما هو دعاء لا غير. وٱحتج بحديث أنس: الصحيح، أخرجه البخاريّ ومسلم. ولا حجة له فيه فإن ذلك كان دعاء عُجِّلت إجابته فٱكتفى به عما سواه، ولم يقصد بذلك بيان سُنّة ولما قصد البيان بيّن بفعله، حسب " ما رواه عبد اللَّه بن زيد المازنيّ قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فاستسقى وحوّل رداءه ثم صلى ركعتين» " رواه مسلم. وسيأتي من أحكام الاستسقاء زيادة في سورة «هود» إن شاء الله. الرابعة: قوله تعالى: { فَقُلْنَا ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ } العصا: معروف، وهو ٱسم مقصور مؤنّث وألفه منقلبة عن واو قال:
على عَصَوَيْهَا سابِرِيُّ مُشَبْرَقُ   
والجمع عُصِيّ وعِصِيّ، وهو فعول، وإنما كُسرت العين لما بعدها من الكسرة وأعْصٍ أيضاً مثله مثل زَمَنٍ وأزْمُنٍ. وفي المثل: «العَصَا من العُصَيّة» أي بعض الأمر من بعض. وقولهم: «أَلْقَى عصاه» أي أقام وترك الأسفار وهو مَثَل. قال:
فألقتْ عصاها وٱستقرّ بها النَّوَى   كما قَرّ عَيْناً بالإياب المسافِرُ
وفي التنزيل:وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ. قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا } [طه: 17 ـ 18]. وهناك يأتي الكلام في منافعها إن شاء الله تعالى. قال الفرّاء: أوّل لحن سُمع بالعراق هذه عصاتي. وقد يعبّر بالعصا عن الاجتماع والافتراق ومنه يقال في الخوارج: قد شَقُّوا عصا المسلمين أي ٱجتماعهم وٱئتلافهم. وٱنشقّت العصا أي وقع الخلاف قال الشاعر:
إذا كانت الهَيْجاءُ وٱنشقّتِ العصا   فحسْبُكَ والضّحاكَ سَيْفٌ مُهَنَّدٌ
أي يكفيك ويكفي الضحاك. وقولهم: لا ترفع عصاك عن أهلك يراد به الأدب.

السابقالتالي
2 3