الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقْنَٱكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }

فيه ثماني مسائل. الأولى: قوله تعالى: { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْغَمَامَ } أي جعلناه عليكم كالظُّلّة. والغمام جمع غمامة، كسحابة وسحاب قاله الأخفش سعيد. قال الفراء: ويجوز غمائم وهي السحاب لأنها تغمّ السماء أي تسترها وكل مغطّى فهو مغموم ومنه المغموم على عقله. وغُمّ الهلال إذا غطّاه الغَيْم. والغين مثل الغيم ومنه قوله عليه السلام: " إنه ليُغان على قلبي " قال صاحب العين: غِين عليه: غطّى عليه. والغَيْن: شجر ملتّف. وقال السُّدّي: الغمام السحاب الأبيض. وفعل هذا بهم ليقيهم حرّ الشمس نهاراً، وينجلي في آخره ليستضيئوا بالقمر ليلاً. وذكر المفسرون أن هذا جرى في التِّيه بين مصر والشام لما ٱمتنعوا من دخول مدينة الجبّارين وقتالهم وقالوا لموسى:فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاۤ } [المائدة: 24]. فعوقبوا في ذلك الفَحْصِ أربعين سنة يتيهون في خمسة فراسخ أو ستة. رُوي أنهم كانوا يمشون النهار كله وينزلون للمبيت فيصبحون حيث كانوا بكرة أمس. وإذ كانوا بأجمعهم في التِّيه قالوا لموسى: مَن لنا بالطعام! فأنزل الله عليهم المنّ والسّلْوَى. قالوا: مَن لنا من حَرّ الشمس! فظلّل عليهم الغمام. قالوا: فبم نستصبح! فضرب لهم عمود نور في وسط محلّتهم. وذكر مكيّ: عمود من نار. قالوا: من لنا بالماء! فأمر موسى بضرب الحجر. قالوا: من لنا باللباس! فأعطوا ألاّ يبلى لهم ثوب ولا يَخْلَق ولا يدرَن وأن تنمو صغارها حسب نموّ الصبيان. والله أعلم. الثانية: قوله تعالى: { وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ } اختُلِف في المنّ ما هو وتعيينه على أقوال فقيل: التّرْنجبِين ـ بتشديد الراء وتسكين النون، ذكره النحاس، ويقال: الطّرْنجبِين بالطاء ـ وعلى هذا أكثر المفسرين. وقيل: صمغة حُلوة. وقيل عسل: وقيل شراب حلو. وقيل: خبز الرُّقاق عن وهب بن مُنَبّه. وقيل: «المنّ» مصدر يعم جميع ما منّ الله به على عباده من غير تعب ولا زرع ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيل: " الكمأة من المنّ الذي أنزل الله على بني إسرائيل وماؤها شفاء للعين " وفي رواية: " من المنّ الذي أنزل الله على موسى " رواه مسلم. قال علماؤنا: وهذا الحديث يدل على أن الكمأة مما أنزل الله على بني إسرائيل أي مما خلقه الله لهم في التِّيه. قال أبو عبيد: إنما شبهها بالمنّ لأنه لا مؤونة فيها ببذر ولا سقي ولا علاج فهي منه. أي مِن جنس مَنّ بني إسرائيل في أنه كان دون تكلُّف. روي أنه كان ينزل عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس كالثلج فيأخذ الرجل ما يكفيه ليومه، فإن ٱدّخر منه شيئاً فسد عليه، إلا في يوم الجمعة فإنهم كانوا يدخرون ليوم السبت فلا يفسد عليهم لأن يوم السبت يوم عبادة، وما كان ينزل عليهم يوم السبت شيء.

السابقالتالي
2