الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ }

فيه عشر مسائل: الأولى: قوله تعالى: { وَإِذْ قُلْنَا } أي وٱذكر. وأما قول أبي عبيدة: إنّ «إذْ» زائدة فليس بجائز لأن إذ ظرف وقد تقدّم. وقال: «قلنا» ولم يقل قلت لأن الجبار العظيم يخبر عن نفسه بفعل الجماعة تفخيماً وإشادةً بذكره. والملائكة جمع مَلَك وقد تقدّم. وتقدّم القول أيضاً في آدم وٱشتقاقه فلا معنى لإعادته وروي عن أبي جعفر بن القَعْقاع أنه ضمّ تاء التأنيث من الملائكة إتباعاً لضم الجيم في «ٱسجدوا». ونظيره «الحمد لله». الثانية: قوله تعالى: { ٱسْجُدُواْ } السجود معناه في كلام العرب التذلل والخضوع قال الشاعر:
بِجَمْع تَضِلّ البُلْقُ في حَجَراته   ترى الأَكُمَ فيها سُجّداً لِلحوافِرِ
الأُكْمُ: الجبال الصغار. جعلها سُجَّداً للحوافر لِقهر الحوافر إياها وأنها لا تمتنع عليها. وعَيْنٌ ساجدة أي فاترة عن النظر، وغايته وضع الوجه بالأرض. قال ٱبن فارس: سَجد إذ تطامن، وكلُّ ما سجد فقد ذّلّ. والإسجاد: إدامة النّظر. قال أبو عمرو: وأسجد إذا طأطأ رأسه قال:
فُضُولَ أزِمّتِها أسجدتْ   سجودَ النصارى لأحبارها
قال أبو عبيدة: وأنشدني أعرابي من بني أسد:
وقلنَ له أسْجِدْ لِلْيلَى فأسجدَا   
يعني البعير إذا طأطأ رأسه ودراهمُ الإسجاد: دراهم كانت عليها صُور كانوا يسجدون لها قال:
وافىَ بها كدراهم الإسجاد   
الثالثة: ٱستدلّ مَن فضّل آدم وبَنِيه بقوله تعالى للملائكة: { ٱسْجُدُواْ لآدَمَ }. قالوا: وذلك يدلّ على أنه كان أفضلَ منهم. والجواب أن معنى { ٱسْجُدُواْ لآدَمَ } ٱسجدوا لي مستقبلين وَجْه آدم. وهو كقوله تعالى:أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ } [الإسراء: 78] أي عند دلوك الشمس وكقوله:وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [صۤ: 72] أي فقعوا لي عند إتمام خلقه ومواجهتكم إياه ساجدين. وقد بيّنا أن المسجود له لا يكون أفضلَ من الساجد بدليل القِبْلة. فإن قيل: فإذا لم يكن أفضلَ منهم فما الحكمة في الأمر بالسجود له؟ قيل له: إن الملائكة لما ٱستعظموا بتسبيحهم وتقديسهم أمَرَهم بالسجود لغيره ليريهم ٱستغناءه عنهم وعن عبادتهم. وقال بعضهم: عيّروا آدم وٱستصغروه ولم يعرفوا خصائص الصُّنع به فأمِروا بالسجود له تكريماً. ويحتمل أن يكون الله تعالى أمرهم بالسجود له معاقبةً لهم على قولهم: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا } لمّا قال لهم: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } وكان علم منهم أنه إن خاطبهم أنهم قائلون هذا، فقال لهم:إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ } [صۤ: 71] وجاعله خليفةً، فإذا نفخْتُ فيه من روحي فَقَعُوا له ساجدين. والمعنى: ليكون ذلك عقوبةً لكم في ذلك الوقت على ما أنتم قائلون لي الآن. فإن قيل: فقد ٱستدلّ ٱبن عباس على فضل البشر بأن الله تعالى أقسم بحياة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال:لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ }

السابقالتالي
2 3 4 5 6