الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }

قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } فيه سبع عشرة مسألة: الأولى: قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ } إذ وإذا حرفَا توقيت فإذ للماضي، وإذا للمستقبل وقد توضع إحداهما موضع الأخرى. وقل المُبَرّد: إذا جاء «إذ» مع مستقبل كان معناه ماضياً نحو قوله:وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ } [الأنفال:30]وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِىۤ أَنعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ } [الأحزاب:37] معناه إذْ مكروا، وإذ قلت. وإذا جاء «إذا» مع الماضي كان معناه مستقبلاً كقوله تعالى:فَإِذَا جَآءَتِ ٱلطَّآمَّةُ } [النازعات: 34]فَإِذَا جَآءَتِ ٱلصَّآخَّةُ } [عبس: 33] وإِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ } [النصر: 1] أي يجيء. وقال مَعْمَر بن المُثَنَّى أبو عبيدة: «إذ» زائدة والتقدير: وقال ربك وٱستشهد بقول الأَسْوَد بن يَعْفُر:
فإذ وذلك لا مَهاةَ لذِكرهِ   والدهر يُعْقب صالحاً بفسادِ
وأنكر هذا القول الزجاجُ والنحاس وجميع المفسرين. قال النحاس: وهذا خطأ لأن «إذ» ٱسم وهي ظرف زمان ليس مما تزاد. وقال الزجاج: هذا ٱجترام من أبي عبيدة ذكر الله عز وجل خلق الناس وغيرهم فالتقدير وٱبتدأ خلقكم إذ قال فكان هذا من المحذوف الذي دل عليه الكلام، كما قال:
فإن المنية مَن يخشها   فسوف تصادفه أينما
يريد أينما ذهب. ويحتمل أن تكون متعلقة بفعل مقدّر تقديره وٱذكر إذ قال. وقيل: هو مردود إلى قوله تعالى: { ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِىْ خَلَقَكُمْ } فالمعنى الذي خلقكم إذ قال ربك للملائكة. وقول الله تعالى وخطابه للملائكة متقرّر قديم في الأزل بشرط وجودهم وفهمهم. وهكذا الباب كله في أوامر الله تعالى ونواهيه ومخاطباته. وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري، وهو الذي ٱرتضاه أبو المعالي. وقد أتينا عليه في كتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفات الله العلى. والرب: المالك والسيّد والمصلح والجابر وقد تقدّم بيانه. الثانية: قوله تعالى: { لِلْمَلَـٰئِكَةِ } الملائكة واحدها مَلَك. قال ٱبن كَيْسان وغيره: وزن مَلَك فَعَل من الملك. وقال أبو عبيدة هو مفعل من لأَكَ إذا أرسل. والأَلُوكة وَالمَأْلَكة والمَأْلُكة: الرسالة قال لَبِيد:
وغلامٍ أرسلَتْهُ أمُّه   بأَلُوكٍ فبذلْنا ما سأَلْ
وقال آخر:
أبلِغِ النُّعمانَ عنِّي مَأْلُكاً   إنني قد طال حبسي وٱنتظارِي
ويقال: أَلِكْنِي أي أرسلني فأصله هذا مَأْلَك، الهمزة فاء الفعل فإنهم قلبوها إلى عينه فقالوا: مَلأَك، ثم سهّلوه فقالوا مَلَك. وقيل أصله مَلأَك من مَلَك يملِك، نحو شمأل من شَمَل فالهمزة زائدة عن ٱبن كَيْسان أيضاً وقد تأتي في الشعر على الأصل قال الشاعر:
فلستَ لإنْسِيٍّ ولكن لَملأَكٍ   تَنزّلَ من جَوّ السماء يَصوبُ
وقال النّضر بن شُمَيل: لا ٱشتقاق للملك عند العرب. والهاء في الملائكة تأكيد لتأنيث الجمع ومثله الصَّلادمة. والصَّلادم: الخيل الشّداد، واحدها صِلْدِم. وقيل: هي للمبالغة، كعلاّمة ونسّابة. وقال أرباب المعاني: خاطب الله الملائكة لا للمشورة ولكن لاستخراج ما فيهم من رؤية الحركات والعبادة والتسبيح والتقديس، ثم ردّهم إلى قيمتهم فقال عز وجل:

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد