الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }

فيها ست وعشرون مسألة: الأولى: قوله: { ٱلَّذِينَ } في موضع خفض نعت «للمتقين»، ويجوز الرفع على القطع أي هم الذين، ويجوز النصب على المدح. { يُؤْمِنُونَ } يصدقون. والإيمان في اللغة: التصديق وفي التنزيل:وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } [يوسف: 17] أي بمصدق ويتعدّى بالباء واللام كما قال:وَلاَ تُؤْمِنُوۤاْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } [آل عمران: 73]فَمَآ ءامَنَ لِمُوسَىٰ } [يونس: 83]. وروى حجاج بن حجاج الأحول ـ ويلقب بزق العَسَل ـ قال سمعت قتادة يقول: يا ابن آدم، إن كنت لا تريد أن تأتي الخير إلا عن نشاط فإن نفسك مائلة إلى السّأْمة والفَتْرَة والملّة ولكنّ المؤمن هو المتحامل، والمؤمن هو المُتقوَّى، والمؤمن هو المتشدّد، وإن المؤمنين هم العجّاجون إلى الله الليل والنهار واللَّهِ ما يزال المؤمن يقول: ربَّنا ربَّنا في السرّ والعلانية حتى ٱستجاب لهم في السر والعلانية. الثانية: قوله تعالى: { بِٱلْغَيْبِ } في كلام العرب: كل ما غاب عنك، وهو من ذوات الياء يقال منه: غابت الشمس تَغيب والغيبة معروفة. وأغابت المرأة فهي مُغيبة إذا غاب عنها زوجها ووقعنا في غَيبة وغَيابة، أي هبطة من الأرض والغيابة: الأَجَمة، وهي جماع الشجر يغاب فيها ويسمى المطمئن من الأرض: الغيب، لأنه غاب عن البصر. الثالثة: وٱختلف المفسرون في تأويل الغيب هنا فقالت فرقة: الغيب في هذه الآية: الله سبحانه. وضعّفه ٱبن العربي. وقال آخرون: القضاء والقدر. وقال آخرون: القرآن وما فيه من الغيوب. وقال آخرون: الغيب كل ما أخبر به الرسول عليه السلام مما لا تهتدي إليه العقول من أشراط الساعة وعذاب القبر والحشر والنشر والصراط والميزان والجنة والنار. قال ٱبن عطية: وهذه الأقوال لا تتعارض بل يقع الغيب على جميعها. قلت: وهذا هو الإيمان الشرعي المشار إليه في حديث جبريل عليه السلام حين قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: فأخبرني عن الإيمان. قال: " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقَدَر خيره وشره " قال: صدقت. وذكر الحديث. وقال عبد اللَّه بن مسعود: ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ }. قلت: وفي التنزيل:وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ } [الأعراف: 7]، وقال:ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَيْبِ } [الأنبياء: 49]. فهو سبحانه غائب عن الأبصار، غير مَرْئي في هذه الدار، غير غائب بالنظر والاستدلال فهم يؤمنون أن لَهم رَبًّا قادراً يجازي على الأعمال، فهم يخشونه في سرائرهم وخلواتهم التي يغيبون فيها عن الناس، لعلمهم بٱطلاعه عليهم، وعلى هذا تتفق الآي ولا تتعارض والحمد لله. وقيل: «بالغيب» أي بضمائرهم وقلوبهم بخلاف المنافقين وهذا قول حسن. وقال الشاعر:
وبالغيب آمنّا وقد كان قومُنا   يصلّون للأوثان قبل محمّد
الرابعة: قوله تعالى: { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ } معطوف جملة على جملة.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد