الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِٱلْمَنِّ وَٱلأَذَىٰ كَٱلَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ }

فيه ثلاث مسائل: الأُولى ـ قوله تعالى: { بِٱلْمَنِّ وَٱلأَذَىٰ } قد تقدّم معناه. وعَبَّر تعالى عن عدم القبول وحرمان الثواب بالإبْطال، والمراد الصدقة التي يمُنُّ بها ويُؤْذِي، لا غيرها. والعقيدة أن السيئات لا تُبطل الحسنات ولا تُحبطها فالمنّ والأذى في صدقة لا يُبطل صدقةً غيرها. قال جمهور العلماء في هذه الآية: إن الصدقة التي يعلم الله مِن صاحبها أنه يمنّ أو يؤذي بها فإنها لا تُقبل. وقيل: بل قد جعل الله للمَلك عليها أمارة فهو لا يكتبها وهذا حسن. والعرب تقول لما يُمَنُّ به: يَدٌ سوداء. ولما يُعطي عن غير مسألة: يَدٌ بيضاء. ولما يُعطي عن مسألة: يَدٌ خضراء. وقال بعض البلغاء: مَنْ مَنّ بمعروفه سقط شكره، ومن أُعجب بعمله حَبَط أجره. وقال بعض الشعراء:
وصاحب سلفتْ منه إليّ يَدٌ   أبطا عليه مُكافاتي فَعَادانِي
لمّا تيقّن أن الدهر حاربني   أبدَى النّدامة فيما كان أوْلانِي
وقال آخر:
أفسدتَ بالمنّ ما أسدَيْتَ من حَسَنٍ   ليس الكريم إذا أسْدَى بمنّانِ
وقال أبو بكر الورّاق فأحسن:
أحسَنُ من كلِّ حَسَنْ   في كل وقت وزَمَنْ
صنيعةٌ مَرْبُوبَةٌ   خالية من المِنَنْ
وسمع ابن سيرين رجلاً يقول لرجل: فعلت إليك وفعلت! فقال له: اسكت فلا خير في المعروف إذا أُحْصِي. وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إياكم والامتنان بالمعروف فإنه يبطل الشكر ويمحق الأجر ـ ثم تلا ـ لاَ تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالمَنّ وَالاٌّذَى ". الثانية ـ قال علماؤنا رحمة الله عليهم: كره مالك لهذه الآية أن يُعطِي الرجل صدقته الواجبةَ أقاربَه لئلا يَعْتاضَ منهم الحمد والثناء، ويظهر منّته عليهم ويكافئوه عليها فلا تخلص لوجه الله تعالى. واستحب أن يعطيها الأجانب واستحب أيضاً أن يولَّى غيره تفريقها إذا لم يكن الإمام عدلاً لئلا تحبط بالمنّ والأذى والشكر والثناء ولمكافأة بالخدمة من المُعْطَى. وهذا بخلاف صدقة التطوّع السّرّ لأن ثوابها إذا حبط سلِم من الوعيد وصار في حكم من لم يفعل، والواجب إذا حبط ثوابه توّجه الوعيد عليه لكونه في حكم من لم يفعل. الثالثة ـ قوله تعالى: { كَٱلَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ } الكاف في موضع نصب، أي إبطال «كالذي» فهي نعت للمصدر المحذوف. ويجوز أن تكون موضع الحال. مَثّل الله تعالى الذي يمنّ ويؤذِي بصدقته بالذي ينفق ماله رئاء الناس لا لوجه الله تعالى، وبالكافر الذي ينفق ليقال جواد وليُثْنَى عليه بأنواع الثناء. ثم مثّل هذا المنفِقَ أيضاً بصَفْوَان عليه تراب فيظنه الظانّ أرضاً مُنبتة طيِّبة، فإذا أصابه وابل من المطر أذهب عنه التراب وبقى صَلداً فكذلك هذا المرائي. فالمنّ والأذى والرياء تكشف عن النية في الآخرة فتبطل الصدقة كما يكشف الوَابل عن الصَّفْوان، وهو الحجر الكبير الأملس.

السابقالتالي
2