الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }

فيه ثلاث مسائل: الأُولىٰ ـ قوله تعالىٰ: { ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } قيل: إنها نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه. " قال عبد الرّحمٰن بن سَمُرة: جاء عثمان بألف دينار في جيش العُسْرة فصبّها في حِجْر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته يدخل يده فيها ويقبلها ويقول: «ما ضَرّ ٱبن عفان ما عمل بعد اليوم اللَّهُمَّ لا تنس هذا اليومَ لعثمان». وقال أبو سعيد الخدرِيّ: رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم رافعاً يديه يدعو لعثمان يقول: «يا ربّ عثمان إني رضيت عن عثمان فٱرض عنه» " فما زال يدعو حتى طلع الفجر فنزلت: { ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى } الآية. الثانية ـ لما تقدّم في الآية التي قبلُ ذِكرُ الإنفاق في سبيل الله على العموم بَيَّن في هذه الآية أن ذلك الحكم والثواب إنما هو لمن لا يتبع إنفاقه مَنّا ولا أذًى لأن المنّ والأذىٰ مبطلان لثواب الصدّقة كما أخبر تعالىٰ في الآية بعد هذا، وإنما على المرء أن يريد وجه الله تعالىٰ وثوابَه بإنفاقه على المنَفق عليه، ولا يرجو منه شيئاً ولا ينظر من أحواله في حالٍ سوى أن يراعي استحقاقه قال الله تعالىٰ:لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً } [الإنسان: 9]. ومتى أنفق ليريد من المنفَق عليه جزاء بوجهٍ من الوجوه فهذالم يُرد وجهَ الله فهذا إذا أخلف ظنه فيه منّ بإنفاقه وآذى. وكذلك من أنفق مضطراً دَافع غَرْم إمّا لمانْةٍ للمنفَق عليه أو لقرينة أُخرىٰ من اعتناء معتن فهذا لم يرد وجه الله. وإنما يُقبل ما كان عطاؤه لله وأكثر قصده ابتغاء ما عند الله، كالذي حُكي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن أعرابياً أتاه فقال:
يا عُمَر الخيرِ جُزَيت الجنّهْ   أُكْسُ بُنَياتِّي وأمّهُنّه
وكُنْ لنا من الزمان جُنَّه   أُقسم بالله لتفعلَنّهْ
قال عمر: إن لم أفعل يكون ماذا؟! قال:
إذاً أبـا حفـصٍ لأذهَبَنّـه   
قال: إذا ذهبت يكون ماذا؟! قال:
تكون عن حالي لتُسْأَلنّهْ   يوم تكون الأُعْطِيات هَنّهْ
ومَوْقِفُ المسئول بيْنَهُنّهْ   إمّا إلى نارٍ وإمّا جَنّهْ
فبكى عمر حتى اخْضَلّت لحيته، ثم قال: يا غلام، أعطه قميصي هذا لذلك اليوم لا لِشعْره! والله لا أملك غيره. قال الماورديّ: وإذا كان العطاء على هذا الوجه خالياً من طلب جزاء وشُكر عُرْياً عن ٱمتنان ونشرٍ كان ذلك أشرف للباذل وأهْنَأَ للقابل. فأما المعطِي إذا التمس بعطائه الجزاء، وطلب به الشكر والثناء، كان صاحبَ سُمْعة ورِياء، وفي هذين من الذمّ ما ينافِي السخاء. وإن طلب الجزاء كان تاجراً مُربِحاً لا يستحق حمداً ولا مدحاً.

السابقالتالي
2