الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَٰسِقِينَ }

قوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً } قال ٱبن عباس في رواية أبي صالح: لمّا ضرب الله سبحانه هذين المثلين للمنافقين: يعني «مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً» وقوله: «أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ» قالوا: الله أجلّ وأعْلَى من أن يضرب الأمثال فأنزل الله هذه الآية. وفي رواية عطاء عن ٱبن عباس قال: لما ذكر الله آلهة المشركين فقال:وَإِن يَسْلُبْهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ } [الحج: 73] وذكر كَيْدَ الآلهَة فجعله كَبَيْت العنكبوت، قالوا: أرأيتَ حيث ذكر الله الذباب والعنكبوت فيما أنزل من القرآن على محمد، أيّ شيء يصنع؟ فأنزل الله الآية. وقال الحسن وقتادة: لما ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتابه وضربَ للمشركين به المَثل، ضحكت اليهود وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله فأنزل الله الآية. و { يَسْتَحْىِ } أصله يَسْتَحْيُ، عينه ولامه حَرْفا علة أُعِلت اللام منه بأن ٱستثقلت الضمة على الياء فسكنت. وٱسم الفاعل على هذا: مستحيٍ، والجمع مُسْتَحْيُون ومُسْتَحْيِين. وقرأ ٱبن مُحَيْصِن «يستحِى» بكسر الحاء وياء واحدة ساكنة ورُوي عن ٱبن كَثِير، وهي لغة تميم وبكر ٱبن وائل نُقلت فيها حركة الياء الأولى إلى الحاء فسكنت، ثم ٱستثقلت الضمة على الثانية فسكنت، فحذفت إحداهما للالتقاء وٱسم الفاعل مُسْتَحٍ، والجمع مستحون ومستحين. قاله الجوهري. وٱختلف المتأوّلون في معنى «يستحي» في هذه الآية فقيل: لا يخشى ورجّحه الطبري وفي التنزيل:وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } [الأحزاب: 37] بمعنى تستحي. وقال غيره: لا يترك. وقيل: لا يمتنع. وأصل الاستحياء الانقباض عن الشيء والامتناع منه خوفاً من مواقعة القبيح وهذا مُحال على الله تعالى. وفي صحيح مسلم عن أمْ سَلَمة رضي الله عنها قالت: جاءت أمّ سُليم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحي من الحق. المعنى لا يأمر بالحياء فيه، ولا يمتنع من ذكره. قوله تعالى: { أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا } «يضرب» معناه يبيّن، و «أن» مع الفعل في موضع نصب بتقدير حذف مِن. «مَثَلاً» منصوب بيضرب. «بَعُوضةً» في نصبها أربعة أوجه: الأول: تكون «ما» زائدة، و «بعوضةً» بدلاً من: «مَثَلاً». الثاني: تكون «ما» نكرة في موضع نصب على البدل من قوله: «مَثَلاً» و «بعوضةً» نعت لما فوصفت «ما» بالجنس المنكّر لإبهامها لأنها بمعنى قليل قاله الفَرّاء والزجاج وثَعْلب. الثالث: نصبت على تقدير إسقاط الجارّ، المعنى أن يضرب مثلاً ما بين بعوضة فحذفت «بين» وأعربت بعوضة بإعرابها والفاء بمعنى إلى، أي إلى ما فوقها. وهذا قول الكسائي والفرّاء أيضاً وأنشد أبو العباس:
يا أحْسَنَ الناسِ ما قَرْناً إلى قَدَمٍ   ولا حِبالَ مُحِبٍّ واصلٍ تَصِلُ
أراد ما بين قَرْن، فلما أسقط «بين» نصب.

السابقالتالي
2 3