الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } * { أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

فيه ست مسائل: الأولى: قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ } لما ذكر ما كتب على المكلَّفين من القصاص والوصية ذكر أيضاً أنه كتب عليهم الصيام وألزمهم إياه وأوجبه عليهم، ولا خلاف فيه قال صلى الله عليه وسلم: " بُنِي الإسلام على خمسٍ شهادةِ أن لا إلٰهَ إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقامِ الصلاة وإيتاءِ الزكاة وصومِ رمضان والحج " رواه ٱبن عمر. ومعناه في اللغة: الإمساك، وترك التنقل من حال إلى حال. ويقال للصَّمْت صوم لأنه إمساك عن الكلام قال الله تعالى مخبراً عن مريم:إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْماً } [مريم: 26] أي سكوتاً عن الكلام. والصوم: ركود الريح وهو إمساكها عن الهبوب. وصامت الدابة على آرِيِّهَا: قامت وثبتت فلم تَعْتَلِف. وصام النهار: اعتدل. وَمَصَامُ الشمس حيث تستوي في منتصف النهار ومنه قول النابغة:
خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمة   تحت العَجاج وخيلٌ تَعْلُكُ اللُّجُمَا
أي خيل ثابتة ممسكة عن الجري والحركة كما قال:
كأنّ الثُّرَيَّا عُلّقت في مَصَامِهَا   
أي هي ثابتة في مواضعها فلا تنتقل وقوله:
والبَكَرَات شرّهنّ الصائمة   
يعني التي لا تدور. وقال ٱمرؤ القيس:
فَدَعْهَا وسَلِّ الهمَّ عنك بجَسْرة   ذَمولٍ إذا صام النهارُ وهَجّرَا
أي أبطأت الشمس عن الانتقال والسير فصارت بالإبطاء كالممسكة. وقال آخر:
حتى إذا صام النهار وٱعتدل   وسال للشمس لعابٌ فنزل
وقال آخر:
نَعاماً بوَجْرَة صفر الخدُو   دِ ما تَطْعَم النوم إلا صِيَامَا
أي قائمة. والشعر في هذا المعنى كثير. والصوم في الشرع: الإمساك عن المفطرات مع ٱقتران النية به من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وتمامه وكماله بٱجتناب المحظورات وعدم الوقوع في المحرّمات لقوله عليه السلام: " من لم يَدَعْ قول الزور والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أن يَدَع طعامَه وشرابَه ". الثانية: فضل الصوم عظيم، وثوابه جسيم، جاءت بذلك أخبار كثيرة صحاح وحسان ذكرها الأئمة في مسانيدهم، وسيأتي بعضها، ويكفيك الآن منها في فضل الصوم أنْ خَصَّهُ الله بالإضافة إليه كما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال مخبراً عن ربّه: " يقول الله تبارك وتعالى كل عمل ٱبن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أُجْزِي به " الحديث. وإنما خصّ الصوم بأنه له وإن كانت العبادات كلّها له لأمرين بايَنَ الصوم بهما سائر العبادات. أحدهما: أن الصوم يمنع من ملاذّ النفس وشهواتها ما لا يمنع منه سائر العبادات. الثاني: أن الصوم سرّ بين العبد وبين ربه لا يظهر إلا له فلذلك صار مختصَّا به. وما سواه من العبادات ظاهر، رُبمّا فعله تَصَنّعاً ورياء فلهذا صار أخص بالصوم من غيره.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد