الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

فيه ست مسائل: الأولى: قوله تعالى: { فَمَنْ خَافَ } «مَنْ» شَرْط، و «خاف» بمعنى خَشِيَ. وقيل: علم. والأصل خَوَف، قُلبت الواو ألفاً لتحرّكها وتحرّك ما قبلها. وأهل الكوفة يميلون «خاف» ليدلوا على الكسرة من فَعِلت. «مِنْ مُوَصًّ» بالتشديد قراءة أبي بكر عن عاصم وحمزة والكسائي، وخفّف الباقون، والتخفيف أبين لأن أكثر النحويين يقولون «مُوَصّ» للتكثير. وقد يجوز أن يكون مثل كرّم وأكرم. «جَنَفاً» من جَنِف يَجْنَف إذا جار، والاسم منه جَنِفٌ وجانف عن النحاس. وقيل: الجَنَف الميل. قال الأعشى:
تَجَانَفُ عن حجر اليمامة ناقتي   وما قَصدَتْ من أهلها لسوَائكا
وفي الصّحاح: «الجَنَف» الميل. وقد جَنِف بالكسر يَجْنَف جَنَفاً إذا مال ومنه قوله تعالى: { فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً }. قال الشاعر:
هم المَوْلَى وإنْ جَنفُوا علينا   وإنّا مِن لِقائهمُ لَزُورُ
قال أبو عبيدة: المَوْلَى ها هنا في موضع الموالِي، أي بني العمّ كقوله تعالى: { ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً }. وقال لَبيد:
إني ٱمرؤٌ مَنعتْ أرومةُ عامرٍ   ضَيْمِي وقد جَنفتْ عليّ خصومي
قال أبو عبيدة: وكذلك الجانىء بالهمز وهو المائل أيضاً. ويقال: أجنف الرجل أي جاء بالجَنَف. كما يقال: الاَمَ أي أتى بما يلام عليه. وأخَسّ أي أتى بخسيس. وتجانَفَ لإثم أي مالِ. ورجلٌ أجنَف أي منحني الظهر. وجُنَفَى على فُعَلَى بضم الفاء وفتح العين: ٱسم موضع عن ٱبن السكّيت. ورُوي عن عليّ أنه قرأ «حَيْفاً» بالحاء والياء أي ظلماً. وقال مجاهد: { فَمَنْ خَافَ } أي من خشي أن يجنف الموصِي ويقطع ميراث طائفة ويتعمد الأذيّة، أو يأتيها دون تعمّد، وذلك هو الجَنف دون إثم، فإن تعمّد فهو الجنف في إثم. فالمعنى من وعظ في ذلك وردّ عنه فأصلح بذلك ما بينه وبين ورثته وبين الورثة في ذاتهم فلا إثم عليه. { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ } عن الموصي إذا عملت فيه الموعظة ورجع عما أراد من الأذية. وقال ٱبن عباس وقتادة والربيع وغيرهم: معنى الآية من خاف أي علم ورأى وأتى علمه عليه بعد موت الموصي أن الموصي جنف وتعمّد أذية بعض ورثته فأصلح ما وقع بين الورثة من الاضطراب والشقاق { فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ } أي لا يلحقه إثم المبدل المذكور قبل. وإن كان في فعله تبديلٌ ما ولا بدّ، ولكنه تبديل لمصلحة. والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى. الثانية: الخطاب بقوله: { فَمَنْ خَافَ } لجميع المسلمين. قيل لهم: إن خفتم من مُوصٍ مَيْلاً في الوصيّة وعدولاً عن الحق ووقوعاً في إثم ولم يخرجها بالمعروف، وذلك بأن يوصي بالمال إلى زوج ٱبنته أو لولد ٱبنته لينصرف المال إلى ٱبنته، أو إلى ٱبن ٱبنه والغرض أن ينصرف المال إلى ٱبنه، أو أوصى لبعيد وترك القريب فبادروا إلى السعي في الإصلاح بينهم فإذا وقع الصلح سقط الإثم عن المصلح.

السابقالتالي
2