الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ }

فيه إحدى وعشرون مسألة: الأولى: قوله تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمْ } هذه آية الوصية، وليس في القرآن ذكر للوصية إلا في هذه الآية، وفي «النساء»:مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ } [النساء: 11] وفي «المائدة»:حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ } [المائدة: 106]. والتي في البقرة أتمها وأكملها ونزلت قبل نزول الفرائض والمواريث على ما يأتي بيانه. وفي الكلام تقدير واو العطف أي وكتب عليكم، فلِما طال الكلام أسقطت الواو. ومثله في بعض الأقوال:لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ ٱلأَشْقَى ٱلَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ } [الليل:15] أي والذي فحذف. وقيل: لمّا ذكر أن لوَليِّ الدم أن يقتصّ فهذا الذي أشرف على أن يقتصّ منه وهو سبب الموت فكأنما حضره الموت، فهذا أوان الوصية فالآية مرتبطة بما قبلها ومتصلة بها فلذلك سقطت واو العطف. و «كُتب» معناه فُرض وأُثبت كما تقدّم. وحضور الموت: أسبابه، ومتى حضر السبب كَنّت به العرب عن المسبّب قال شاعرهم:
يأيها الراكبُ المُزْجِي مَطِيّتَه   سائلْ بني أسَد ما هذه الصّوْتُ
وقل لهم بادروا بالعُذْر والتمسوا   قولاً يبرّئكم إني أنا الموت
وقال عنترة:
وإن الموت طوعُ يدي إذا ما   وصلت بنانها بالهندوان
وقال جرير في مهاجاة الفرزدق:
أنا الموت الذي حدّثت عنه   فليس لهارِبٍ مِنّي نجاء
الثانية: إن قيل: لم قال «كُتب» ولم يقل كُتِبَتْ، والوصيةُ مؤنّثة؟ قيل له: إنما ذلك لأنه أراد بالوصية الإيصاء. وقيل: لأنه تخلّل فاصل فكان الفاصل كالعَوض من تاء التأنيث تقول العرب: حضر القاضي اليوم ٱمرأة. وقد حكى سيبويه: قام ٱمرأة. ولكن حُسْن ذلك إنما هو مع طول الحائل. الثالثة: قوله تعالى: { إِن تَرَكَ خَيْراً } «إن» شَرْط، وفي جوابه لأبي الحسن الأخفش قولان قال الأخفش: التقدير فالوصية، ثم حذفت الفاء كما قال الشاعر:
مَن يفعل الحسناتِ اللَّهُ يشكرها   والشِّرُّ بالشَّر عند الله مِثْلانِ
والجواب الآخر: أن الماضي يجوز أن يكون جوابه قبله وبعده فيكون التقدير الوصية للوالدين والأقربين إن ترك خيراً. فإن قدّرت الفاء فالوصية رفع بالابتداء، وإن لم تقدّر الفاء جاز أن ترفعها بالابتداء، وأن ترفعها على ما لم يُسّم فاعله أي كتب عليكم الوصية. ولا يصح عند جمهور النحاة أن تعمل «الوصية» في «إذا» لأنها في حكم الصلة للمصدر الذي هو الوصية وقد تقدّمت، فلا يجوز أن تعمل فيها متقدّمة. ويجوز أن يكون العامل في «إذا»: «كُتِب» والمعنى: توجّه إيجاب الله إليكم ومقتضى كتابه إذا حضر فعبّر عن توجّه الإيجاب بكُتب لينتظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل. ويجوز أن يكون العامل في «إذا» الإيصاء يكون مقدّراً دلّ على الوصية، المعنى: كُتب عليكم الإيصاء إذا. الرابعة: قوله تعالى: { خَيْراً } الخير هنا المال من غير خلاف، وٱختلفوا في مقداره فقيل: المال الكثير روي ذلك عن عليّ وعائشة وٱبن عباس وقالوا في سبعمائة دينار إنه قليل.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8